أهمية العلاقة التربوية في عملية التنشئة الاجتماعية:

تعتبر التّربية مهمة لتعليم الطّفل المهارات اللّازمة لكي يصبح فرد اجتماعي، "هذا ما يعبّر عنه أيضا عند علماء الاجتماع بالتّنشئة الاجتماعية « la socialisation ». حيث أنّ هناك تقارب كبير بين مصطلحي التّربية والتّنشئة الاجتماعية". التّنشئة الاجتماعية عبارة عن عملية مستمرة طوال حياة الفرد، تتدخل فيها العديد من المؤسّسات وتكون أولية وثانوية. هذه المؤسّسات تساعد الفرد على الانتماء إلى المجتمع.

تعرّف التّنشئة الاجتماعية على أنّها "الصّيرورة الّتي نقوم من خلالها باستدخال النّماذج الثّقافية، المعايير والقيم الّتي تمكّننا من الاندماج في المجتمع". وحسب « Grusec & Hastings » (2007) تعرّف على أنّها "الصيرورة الّتي من خلالها يقوم الفرد بتعلّم الاندماج، أن يكون جزء من مجموعة أو العديد من المجموعات الاجتماعية، ذلك بمساعدة ودعم من قبل المحيط الذي يوجد فيه مباشرة". في نفس السّياق قام « Monteil » (1994) بتعريفها على أنّها "الصّيرورة التّي يكتسب من خلالها الأشخاص – بالعلاقة مع أشخاص آخرين – مجموعة من المعارف، الإمكانيات، المعايير والقيّم التي تمكّنهم من التّصرف كأفراد في المجتمع الذين ينتمون إليه". التّنشئة الاجتماعية هي عبارة "عن استدخال ثقافة المجتمع في بناء الشّخصية، فهي تدلّ على العمليات الّتي يتشرّب بها الطّفل الأنماط السّلوكية الّتي تميّز ثقافة مجتمعه عن ثقافة المجتمعات الأخرى". حسب « Claude Dubar » "التّنشئة الاجتماعية الّتي تمكّن من بناء الهويات الاجتماعية، لا تتلخّص في أية حال في النّقل البسيط للمعايير والقيم. حاليا، هناك ميول لتعريفها على أنّها مجموعة التّصورات الّتي تكوّن الفرد".

إذا يمكن القول أنّ التّنشئة الاجتماعية تهدف إلى جعل الفرد اجتماعي من خلال استدخال النّماذج السّلوكية للأفراد المحيطين به. لذلك من وجهة نظر اجتماعية حديثة تعبّر التّنشئة الاجتماعية عن "مثال تربوي (idéal éducatif) للنّهوض بالمواطنة واكتساب المعني الحقيقي للاستقلالية. حيث أنّها تهدف إلى تكوين مواطن يكون حرّ وفي نفس الوقت مسؤول، يعرف حقوقه وواجباته، أي يعرف حدود حريته. هذا ما يشكّل وما يميّز المجتمع، حيث هذا الأخير يعتبر حسب « Durkheim » "نظام من الحقوق والواجبات". التنشئة الاجتماعية تمكّن الأفراد من أخذ مكانتهم في المجتمع وتمكّنهم أيضا من ضمان استمرارية الرّابط الاجتماعي عبر الأجيال.

يرى « Durkheim » أنّ "التّنشئة الاجتماعية تتميز قبل كلّ شيء بالفعل التّربوي للأجيال القديمة على الأجيال الشّابة". بالنّسبة إليه "التّربية هي عبارة الفعل الممارس من قبل الأجيال الرّاشدة على الأجيال الّتي لم تنضج بعد للحياة الاجتماعية. هدفها هو التّسبب في تطوير لدى الطفل مجموعة من الحالات الجسدية، الفكرية والمعنوية الّتي يتطلبها منه المجتمع الّذي ينتمي إليه. التّربية تثبّت عند الطفل التّشابه الأساسي الّذي تتطلبه الحياة الجماعية. حيث يعتبر أنها "تمكّن الفرد من التّعلّم، استدخال القيم والمعايير، وأيضا تجعله يتكوّن ككائن اجتماعي"، التّربية هي عبارة عن الوسيلة التّي تساعد الطّفل على اكتساب الشّروط الأساسية لوجوده. فالفرد من خلال تفاعله مع الآخرين يكتسب اللّغة وطريقة التّواصل مع الآخرين، أي أنه يكتسب السّلوكيات الملائمة الّتي تمكنه من الانتماء إلى المجتمع. فهو يكتسب الإمكانيات، المعتقدات، الاتجاهات والمهارات الأساسية.

هنا لا يمكن التّفرقة بين أهداف التّربية وأهداف التّنشئة الاجتماعية، فكلاهما تهدفان إلى جعل الفرد اجتماعي من خلال استدخال القيم والمعايير المنتشرة في مجتمعه. أي تكوين فرد من مجتمع ومواطن يمكنه الاندماج مع أفراد محيطه.

إنّ ما يعرف بالتّنشئة الاجتماعية الأوّلية تكون خاصّة في بداية حياة الطّفل والّتي تكون عادة في الوسط العائلي ومن ثمّ المدرسة، أي أنّ الأسرة والمدرسة هما أولى المؤسسات الاجتماعية التي تساعد الطّفل على الاندماج والتّعلّم حول حياته في المجتمع الّذي ينتمي إليه. "فالتّنشئة الاجتماعية الأولية تضع البناءات العقلية التّي تجعل من الفرد كائن قادر على الاندماج في مجتمعه"، وبذلك يمكن التأكيد على أنّ للتّنشئة الاجتماعية الأولية أهمية كبرى في حياة الفرد. حسب ما اتفق عليه أغلب الباحثين في هذا المجال، خلال التّنشئة الاجتماعية الأولية، أغلب النّماذج السّلوكية والقيم تستدخل من قبل الفرد وتترك فيه أثر لا يمحى. لذلك فإنّ الأسرة تستحق انتباه خاص.

كما يعتبر مجموعة من علماء الاجتماع أنّ تربية الأطفال تمثل النّواة الأكثر وضوحا، وأيضا تمثّل قلب عملية التّنشئة الاجتماعية العائلية. حسب ما جاء به « Durkheim » في كتابه « Education et sociologie » أنّ "التّربية هي عبارة عن تنشئة اجتماعية منظمة للجيل الشّاب من خلال الأجيال السّابقة". بمعنى أنّ التّربية والتنشئة الاجتماعية لديهما نفس الأهداف وهي مساعدة الطّفل على أن يصبح فرد اجتماعي، الفرق بينهما هو أنّ التّربية هي العملية الأكثر تنظيما من التّنشئة الاجتماعية. حسب « Durning » عند التحدّث عن تربية الطّفل من قبل الأبوين يمكن أيضا التّحدّث على ما يطلق عليه علماء الاجتماع وبعض علماء النّفس بالتنشئة الاجتماعية الأولية، أي أنّ بعض العلماء لا يرون اختلاف بين التّربية وبين التّنشئة الاجتماعية فهما تقريبا متطابقان. فأغلب ممارسات التّنشئة الاجتماعية الّتي يقوم بها الآباء هي عبارة عن ممارسات تربوية.

قامت بعض الدّراسات بتناول أهمية التّربية والتّنشئة الاجتماعية الأولية الّتي تكون على مستوى الوسط العائلي من قبل الوالدين، ووجدت أنّ المكتسبات الأوّلية الّتي يتلقاها الطّفل في المراحل الأولى من حياته ذات أهمية بالغة. حيث أنّ هناك دراسات أجريت على أطفال كانت الأشهر الأولى من حياتهم خارج نطاق المجتمع البشري، أي أنّهم تربّوا مع مجموعة من الحيوانات. فكانت مكتسباتهم الاجتماعية خاصّة اللّغوية تقريبا منعدمة. لكن بمجرد تعليمهم اللّغة للتّواصل مع الآخرين كان هناك تعلّم لكنه ناقص بالمقارنة مع الأطفال الذين نشئوا في وسط العائلة. فمعظم الباحثين يعتبرون الوالدين هما العاملين الأساسيين لتنشئة الطّفل.

على الرّغم من أهمية التّربية والتنشئة الاجتماعية خاصّة في الأشهر الأولى من حياة الفرد إلاّ أنّ العمليتين تستمران على طول حياة الفرد، وهي قد تغيّر من الاتجاهات الّتي يتبناها الفرد خلال فترات مختلفة من حياته. ذلك باختلاف المؤسسات والأشخاص الّذين يؤثرون في حياته وباختلاف التّجارب الّتي يعيشها والّتي تجعله يعزز مكتسباته أو يغيّرها.