نظرية الأدب
مخطط الموضوع
-
الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي
جامعة محمد الصديق بن يحي جيجل
كلية الآداب و اللغات قسم اللغة و الأدب العربي
محاضرات في مقياس: نظرية الأدب
السنة الثانية ماستر نقد
الشعبة دراسات نقدية / التخصص النقد
الوحدة التعليمية الأساسية
اسم المادة : نظرية الأدب
الرصيد : 05
المعامل: 03
أهداف التعليم: نتوخى من دراسة نظرية الأدب الأهداف التالية ؛
-توضيح الخلفيات الفكرية و الفلسفية لمختلف النظريات الأدبية .
- بيان وجهات النظر المختلفة حيال طبيعة الظاهرة الأدبية و وظيفتها و ارتباطها بمختلف مناحي الحياة
الإنسانية النفسية و الاجتماعية و الاقتصادية .
- تمكين الطالب من التفريق بين النظريات و الآليات و المناهج المتبعة في التعاطي مع الأدب و نقده.
المعارف الطلوبة :
- الاطلاع على المدارس النقدية المختلفة و المذاهب الأدبية الشائعة.
- فهم العلاقة بين الأدب و النقد.
- بعض الاطلاع على الفلسفات الكبرى.
إعداد الأستاذ: رؤوف قما ش
-
المحاضرة الأولى: مفهوم الأدب
بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على سيدنا و حبيبا محمد النبي العربي الأمي الأمين سيد
الأولين و الآخرين و إمام المتقين ، أما بعد : أرحب بأبنائي الطلبة في مقياس نظرية الأدب متمنيا
لنفسي التوفيق و السداد و لطلبتي أبنائي الأعزاء و بناتي العزيزات مزيدا من المعرفة و الرقي و التقدم
في مدارج العلم و مسالك الحياة الشاقة ، و أتوجه إلى الله بخالص دعواتي بالتوفيق و السداد لنا جميعا
في هذا القصد الشريف في رحاب العلم النافع .
تمهيد : لمقاربة رصينة لحدّ مصطلح معيّن يجب التركيز على ماهيته ومادته ووظيفته؛ ويقصد
بالماهية طبيعة الشيء الوجودية، وبالمادة ما يتركب منه وما يشتغل عليه، وبالوظيفة الدور الذي يلعبه
في مجال من مجالات الحياة، وتعد هذه الأمور أهم المكونات لتعريف واضح جامع مانع لأي م صطلح
كان .
-1 مفهوم الأدب عند العرب القدامى :
تناول أهل الفكر والأدب من العرب القدامى مسألة ماهية الأدب حينما قاربوا مفاهيم متعلقة به
كالشعر والنثر والبلاغة والكلام، وكان لفظ الأدب معروفا بدلالة قريبة من التي نتعاطاها الآن ؛ لأن
العصر العباسي و لربما الأموي استعملا اللفظة أدب للدلالة على تلك النصوص الشعرية والنثرية
المتميزة، ودليل هذا الكلام عناوين بعض الكتب التي أُلّفت بعد الجاحظ ومنها: أدب الكاتب لابن قتيبة
276 ه - والكامل في اللغة والأدب للمبرد 286 ه - والمقامات الأدبية للحريري 516 ه . وقد اهتمت
بجيد الشعر والنثر وقضايا البلاغة والفصاحة والبيان.
وحاول بعض أهل الفكر والأدب مقاربة مفهوم الشعر والنثر كدأب أبي حيان التوح يدي إذ قال فيهما:
إن الكلام عن الكلام صعب ... لأن الكلام على الأمور المعتمد فيها على صور الأمور وشكولها التي «
تنقسم بين المعقول وبين ما يكون بالحسّ ممكن وفضاء هذا متسع، والمجال فيه مختلف. فأما الكلام على
الكلام فإنه يدور على نفسه، ويلتبس بعضه ببعض، ولهذا شق النحو وما أشبه من المنطق وكذلك النثر
من كتاب الإمتاع و المؤانسة( . ( »... والشعر
وأبو حيّان هذا رجل فيلسوف ومفكر عاش في عصر كان فيه الأدب لا يزال يعني الظرف وما يتصل
به على مذهب الجاحظ ومعاصريه، أي قبل الانتقال الكامل لمدلول اللفظ من مجالس التفكه إلى ما كان
يدور فيها من كلام فيه ذوق وحرص على البلاغة والبيان مما صار يسمى أدبا فيما بعد .
وحتى عصر ابن خلدون كانت هناك صعوبة في تحديد مفهوم دقيق للأدب إذ قال هذا الأخير في
هذا العلم لا موضوع له، ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل «: مقدمته
المقدمة، ص: ( » اللسان ثمرته وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومن فيهم
.) 461
إنهم إذا أرادوا حدّ هذا « : وهذا تعريف غريب إذ لا علم بلا موضوع، ثم نراه يعرفه بوصفه فنا بقوله
- المقدمة، ص: 461 ( » الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف
462 ( والمقصود بالعلم هنا علوم اللسان والعلوم الشرعية من حيث متونها كما ذكر علما وحفظا وهذا
هو التأدب لا الأدب . والادب عند ابن خلدون علم وفن: علم من حيث موضوع دراسته وإن كان ذلك
الموضوع غير مستقر، وهو فن من حيث كونه ملكة حفظ وفهم لتلك النصوص .
وما يلاحظ من جهود التوحيدي وابن خلدون وقبلهما الجاحظ وابن الأنباري وغيرهم هو توصل
المفكرين العرب والنقاد إلى طبيعة الأدب العلمية والفنية على السواء مع اختلافات في الحدود
والاصطلاحات لا يتسع المقام لشرحها .
-2 مفهوم الأدب عند العرب المحدثين :
عرض الأدباء العرب المحدثون للمفهوم بشكل مستفيض متأثرين بأسلافهم الأقدمين وبما ورد إليهم
من الأوروبيين، ويعود اهتمامهم به إلى فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين و ما بعدها
ومن أبرزهم في هذا الصدد: أحمد أمين، وأحمد الشايب وشوقي ضيف ، وعزالدين إسماعيل، وشكري
فيصل . ويمكن التوصل إلى مفهومه عندهم استنتاجا ، إذ تكلموا عنه دون جزم أو حسم، فهاهو أحمد
وهو تعريف فلسفي » تفسير الحياة واستخراج معانيها « : أمين يذكر تعريفا له دون أن يتبناه مفاده أنه
إلى حد كبير، وخلص في بعض مقارباته له إلى أن الأدب فن وقارن بينه وبين العلم .
ونظر عزالدين إسماعيل من جهته إلى الأدب على أنه أكثر من كونه فن الكلمة ناقلا فكرة مفادها أنه:
يتكون من تلك الكتب العظيمة...التي لها بحكم موضوعها وطريقة تناول هذا الموضوع أهمية إنسانية «
18 (. وبعد ذلك نجده يخلص إلى ما يشبه التعريف ناقلا عن ماتيو أرنولد - الأدب وفنونه، ص 17 ( » عامة
وهذا ما ذهب إليه أحمد أمين أيضا ويشرح » الأدب تعبير عن الحياة وسيلته اللغة « : الإنجليزي فيما يلي
فيما يبدو ليس شيئا بسيطا، إنه يستمد من الحياة،ولكنه « الفكرة أكثر حينما يذهب إلى أن العمل الأدبي
ليس مجرد معنى للحياة أو فكرة عنها نتعلمها كما نتعلم الأشياء الأخرى.... إنه طاقة هائلة تشعّ ألوانا من
وتحدث عن كونه استخداما خاصا للغة، وبعد كثير من الكلام أعلن عجزه ، » الإشعاعات على مرّ الزمن
الأدب ذلك الشيء المجرد من الأولى ألا نتعب أنفسنا في محاولة « أمام الظاهرة الأدبية فقال بأن
» تعريفه
ولو نظرنا في تعريف الأدب لدى سائر من عرّفوه لوجدنا تباينا كبيرا، لأن كل واحد يعرفه انطلاقا
من وجهة نظره وتخصصه وثقافته. وكان شوقي ضيف ممن تملكتهم الحيرة أمام مفهوم الأدب إذ
وأما الأدب وكل ما يتّصل به فتحوطه شباك سحرية توشك أن تجعل كل ظاهر فيه كأنما هو « : صرّح
شوقي ضيف، مناهج البحث الأدبي، ص: 9( وحاول أن (» باطن، أو كأنما يستخفي وراء أستار خفيفة
يقارب مفهومه من خلال عناصره التي أشار إليها قبله أحمد الشايب و أحمد أمين. وظل عدد معتبر من
الأدباء والنقاد العرب يعتبر الأدب فنا بالنظر إلى التمايز الواضح بينه وبين العلم في المادة والمنهج
والهدف، لأن الأول قائم على الذوق والعاطفة وعناصر أخرى غير قابلة للضبط الكميّ مثل المادة التي
لا تشتغل عليها العلوم، واعتبره البعض الآخر خلقا أو تعبيرا، والأدب في حقيقته كل ذلك إضافة إلى أنه
فن لغوي تعبيري تصوري يعبّر عن الحياة الإنسانية ويصوّرها .
-3 مفهوم الأدب عند الغربيين :
تُعد النظرة الأوروبية الحديثة إلى الأدب نظرة متطورة ، إذ لدى القوم تراث يوناني وروماني
وقروسطي)نسبة إلى القرون الوسطى(، ولديهم أيضا مدارس حديثة كثيرة ومذاهب عرضت لمفهوم
الأدب من زوايا شتّى، إذ هنالك الخلفية الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية والبنيوية
والسيميائية والتفكيكية ..إلخ، لذلك كلّه سنجد أنفسنا أمام مفاهيم متعددة ومتنوعة نفصل الحديث عن
بعضها وبخاصة تلك التي ظهرت بعد الثورة الشكلية البنيوية وتعود هذه المفاهيم إلى أمثال سارتر
وتودوروف وتيري إيجلتون وروني ويليك.....إلخ
ويُعد كتاب جون بول سارتر)ما الأدب( كتابا مهمّا في هذا الصدد ليس لأنه أعطى تعريفا متميزا
للأدب بل لطريقته المتميزة في الحديث عنه؛ فهو يُقرّ منذ البداية أن الأدب فن ويقسّمه إلى شعر
ليس بكاتب لأنه اختار التحدث عن بعض الأشياء بل لأنه اختار التحدث « : ونثر...وذكر أن الكاتب
وملخص آرائه أن الأدب فن ملتزم يظهر للعالم من خلال اللغة ويهدف إلى منح . » عنها بطريقة معيّنة
القراء نوعا من الشعورباللذة أو الطرب الفني .
أما روني ويليك فيميّز منذ البداية بين الأدب والدراسة الأدبية إذ يرى الأول نشاطا خلاقا ذا طبيعة
فنية بينما الثاني إذ لم يكن علما فهو ضرب من المعرفة والتحصيل أي هو أقرب إلى العلم . وجرب
مفاهيم منها أنه كل شيء مطبوع وهذا مفهوم عائم، ثم قال إ نه الكتب المهمة وأمهات الكتب لك نه ناقش
المفهومين وتخلى عنهما، إذ نادى بأن يقتصر مفهوم الأدب على فن الأدب أي على أدب الخيال أو
الأدب التخييلي، الذي يعني القصيدة والرواية والمسرحية على وجه الخصوص إلا أنه لم يحسم أمره في
هذا الصدد .
تودوروف من جهته ليس في كلامه جديد من حيث وضع مفهوم دقيق للأدب لأنه ذهب يشكك في
مشروعية مفهوم الأدب نفسه لغياب حد فاصل بين ما هو أدب وما هو ليبس بأدب، لكنه فصل بشكل
متميّز عن الآخرين بين المفهوم الوظيفي الذي يتناول الأدب في نظام أكثر اتساعا هو المجتمع والمفهوم
البنيوي والفارق بينهما في وجهة النظر لا في الموضوع، واعتمد في تحديد المفهوم البنيوي فكرة كون
الأدب محاكاة بالكلام أي تخييل مضيفا قضية غا ئية لغته وجماليتها. وخلص في النهاية إلى أن الأدب
ميدان متنازع عليه بين علماء اللغة ونقاد الأدب واللغويين والفلاسفة وعلماء النفس) ينظر، مفهوم الأدب
. ) ودراسات أخرى،ص: 09
وبعد النظر في مفهومه لدى السيميائيين ككورتاس وغريماس ولوتمان رأى الأول والثاني أنه
خطاب لغوي واصف غير علمي قائم على الخيال والمجازية، أما بارت فرأى أنه مفهوم عائم شديد
الاتساع يتصف بالتطور عبر التاريخ. أما المعاجم الأدبية فلم تُضف شيئا مميزا في هذا الصدد يفوق ما
عرضناه .
-4 مادة الأدب ومجاله:
مادة الأدب أو موضوعه هي الجزء الثاني الأساسي في مقاربة مفهوم الأدب، إذ ليس من الصعب
استخلاص موقف الأدباء والنقاد منها لأنها ترد بجانب الماهية في أغلب الكتابات . لقد ذكر ابن خلدون
حاجة الأديب إلى الاطلاع على اصطلاحات العلوم لحاجته إليها، وما يحتاج إليه من أشعار وأخبار
وعلوم اللسان والشرع وتعالج هذه الأمور قضايا الحياة السياسية والاجتماعية، وقضايا الانسان العامة
والخاصة ومسائل الدول والحكم والسلم والأمن والدين ثم ما لبث أن ذكر نماذج عن كتب الأدب المعتمدة
في عصره وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة والكامل في اللغة و الأدب للمبرد والبيان والتبيين للجاحظ
والنوادر لأبي علي القالي، و تضمنت هذه الكتب أشعارا وخطبا ومواعظ وطرائف ومسائل لغوية عامة
...إلخ. وأشار كذلك إلى أن الغناء كان حينها جزءا من هذا الفن وكانت العرب تعرف حدود الأدب
وهذا « : ومادته شعرا ونثرا وتصنّفه إلى فنون أو ضروب كما قال المبرد في خطبة كتابه الكامل
الكتاب ألفناه يجمع ضروبا من الآداب ما بين كلام منثور وشعر مرصوف ومثل سائر وموعظة بالغة
وورد في كتاب البيان والتبيين وكذا كتاب الحيوان لأبي . » واختيار من خطبة شريفة ورسالة بليغة
عثمان الجاحظ كلام الله تبارك وتعالى وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والرسل
عليهم السلام وأصحاب المواقف البليغة والقصاص والأعراب....إلخ .
لقد كان مجال الأدب محددا عند القدماء بشكل واضح، حيث كان يضمّ الكلام الم|ُتخيّر الدال على
البيان والفصاحة والمهارة بغض النظر عن القائل، ومصدره المجتمع والمواقف المختلفة والتجارب التي
يخوضها الناس، وكانت نصوصه مبثوثة في كتب خاصة أو عامة إلى جانب موضوعات انتمت إلى
مجالات وعلوم أخرى وتمثّل تراث الأدباء والشعراء والقصص والحكايات والخرافات والرحلات
والحكم والأمثال والألغاز ...إلخ .
أما عند المحدثين فموضوعه يبدو أوضح وهو الإنسان في العالم بحسب جون بول سارتر وهو كذلك
دراسة الإنسان وعلاقته بنفسه وبالعالم « : عند تودوروف فيما نقله عن جمعية أساتذة الأدب ، إذ هو
وذكر أن موضوعه هو الوضع الإنساني نفسه في خِضمّ هذا العالم كما أوردناه عند » وعلاقته بالآخرين
سارتر، إن الدور الحقيقي للأدب ليس إقرار حقائق على شاكلة العلوم أو تحديد مفاهيم على مذهب
الفلاسفة، وإنما هو فتح نافذة أخرى على حقائق الحياة عن طريق وسيط هو اللغة التي نستعملها بشكل
خاص .
إلى هنا تنتهى هذه المحاضرة الأولى .تحياتي لكم جميعا السلام عليكم و رحمة الله و شكرا على حسن
المتابعة و الإصغاء و الحمد لله رب العالمين .
نهاية المحاضرة
أ.ر.قماش
-
المحاضرة الثانية: عناصر الأدب
تمهيد : أجمع النقاد على أن الأدب يتكون من أربعة عناصر: العاطفة، والخيال، والمعنى، والأسلوب .
ومعنى ذلك أن كل نوع من الأدب لا بد أن يشتمل على هذه العناصر الأربعة ولا يخلو من عنصر منها،
واحتياج أنواع الأدب إلى هذه العناصر نسبي ، إذ يحتاج الشعر إلى مقدار من الخيال أكثر مما تحتاج
إليه الحكم أو المقالات، وتحتاج الحكم والمقالات إلى مقدار من المعاني أكثر مما تحتاج إليه من الخيال و
هكذا.
-1 العاطفة:
هي الإحساس والشعور بل هي أرقى درجة منهما وهي عنصر هام في الأدب وهي التي تعطيه
الصفة التي نسميها الخلود وهي أتت من العقل وهي لا تتغير في أساسها وإن تغيّرت في أشكالها وهي
متصلة بالذات لا بالموضوع الذي قد تتغير قوانينه كلما جد جديد، وقد حصر بعض الأدباء العاطفة
وقواعد الشعر أربعة الرغبة والرهبة والطرب « : الأدبية في أربع إذ حكى ابن رشيق في العمدة فقال
والغضب؛ فمع الرغبة يكون المدح والشكر ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف ومع الطرب يكون
ينظر كتاب العمدة (. ( » الشوق ورقة النسب، ومع الغضب يكون الهجاء والوعيد والعتاب
وتقدر العاطفة بصفائها واعتدالها أي أن الأسباب التي أثارتها أسباب صحيحة وجيدة، كما تُقدر
بقوتها وحيويتها. والعواطف هي التي تحركنا إلى العمل وهي التي توجه الإرادة وتوجه مجرى الحياة
بتعبير أحمد أمين، وتقدر العاطفة بثباتها واستمراريتها وتحتاج عاطفة الأديب لتكون خصبة ومؤثرة إلى
أسلوب جيد وتجارب متنوعة في الحياة .
-2 الخيال :
ملكة الخيال ذات قيمة كبيرة في الأدب إن لم تكن أقوى ملكاته حسب أحمد أمين، وكل أنواع الأدب
معتمدة عليه، وكلما قويت صلة الموضوع بالأدب كانت حاجته إلى الخيال أكبر وأوضح؛ فالشعر
والقصص وهما خير ما يمثّل الأدب ، وخير ما تظهر فيه نفحة الجمال حاجتهما إلى عنصر الخيال
غنية عن البيان. ولهذا العنصر دخل كبير في إثارة العواطف ويبقى الخيال عملية تركيبية تتدخل فيها
الذاكرة والحواس والعقل وأشياء أخرى قد لا نعرفها لكن معرفتها ممكنة من خلال تتبع آثارها، وينقسم
الخيال إلى ؛ بسيط يركب صورة من صورة مألوفة مشاهدة مشاهدة مباشرة، ومركب لا يعتمد الصور
المباشرة .
و فرق النقاد بين الخيال والوهم الذي يعد خيالا سابحا في الفضاء لا يقيده عقل ولا منطق مقبول أو
نواميس طبيعية، وعادة ما ينتج صورا غير مستساغة في الذوق، ويتدرج الخيال من الخلق والتأليف إلى
الإيحاء؛ حيث يعمل الخيال الخلاق على خلق العناصر الأولى التي تكتسب من التجارب صورة جديدة لا
تنافي الحياة المعقولة فإذا نافتها كانت وهما، بينما يعمل الخيال المؤلف على الجمع بين مناظر مختلفة
ويستدعي الأديب فيه خبرته مع موضوعات مشابهة للم وضوع الراهن فيؤلف بين الشعورين بضرب
من التشبيه أو الصور البيانية كقول أبي تمام:
وأذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت *** ما كان يعرف طيب عرف العود
أما الخيال الموحي أو الم وعز فبدل أن يفرق صورة بصورة يفيض على الصورة التي يراها صفات
ومعاني روحية تؤثر في النفس، إذ يغوص في باطن الشيء فيصل إلى جوهره وتكمن الحياة والحيوية
فيه إلى روحه، كقول ابن الشبل البغدادي في وصف الإنسان:
متصرف وله القضاء مصرف *** ومكلف وكأنه مخت ار
طورًا تصوّبه الحظوظ وتارة *** خطأ تحيل صوابه الأق دا ر
فتراه يؤخذ قلبه من مصدره *** ويزد فيه وقد جرى المقدار
فيظل يضرب بالملامة نفسه *** ندما إذا لعبت به الأقدار
-3 المعاني :
للمعاني قيمة كبيرة في الأدب إذ الغرض منه ليس إثارة العواطف واللذة فحسب ، بل هو إبراز
الحقائق والأفكار والمعاني، ويجب أن تكون المعاني عزيزة فياضة دقيقة وواضحة، ولا ينجح الأد يب إلا
إذا أحسن المزج بين المعاني الدقيقة الواضحة والعواطف والمشاعر القوية مستعملا خيالا خلاقا ، وإذا
نجح في ذلك كانت كتابته راقية مؤثرة، ووظيفة الأدب ليست نقل الحقائق على نحو ما يفعله العلم أو
التاريخ إنما هي أن ينتفع بالحقائق المعروفة ويهيج بها العواطف ويثير بها الشعور لغرض فني يخدم
غاية سامية كالتربية والأخلاق والقيم الإنسانية، إذ لا يطلب من الأديب أن يطابق حقائق الواقع
بالضرورة ، ف حسبه أن يحسن التعبير عن غايات الأديب ونظرته للواقع، لأن غاية الأدب المثلى هي
صناعة واقع أفضل من واقعنا الإنساني المتردي .
-4 الأسلوب:
وأداة الأدب هي اللغة بألفاظها المتوزعة في القواميس أو الكتب و المؤلفات لكن الأديب الحق هو
الذي يخوض تجربة جيدة مع اللغة تختلف عن تجارب العامة لأنه فنّان ريشته الألفاظ ينقل بها رسائله
إلى الآخرين، والأسلوب في حقيقته وعاء للأفكار والمعاني وسيلة نقل الأخيلة والمعاني وتوصيل
المشاعر والأحاسيس والعواطف والمواقف، وهو طريقة نظم الألفاظ ورصفها لنقل المواقف والمشاعر
نقلا أدبيا مؤثرا، ولا بد أن يكون جميلا أخاذا وإلا فشل في نقل ما يرومه من مكبوتات فكرية وشعورية
و رسائل مباشرة أو غير مباشرة .
نهاية المحاضرة
أ.ر.قماش
-
المحاضرة الثالثة: وظيفة الأدب
دور الأدب في الحياة قضية شغلت الكثيرين في جميع العصور، وهي ذات أهمية في تشكيل تصور
علمي لمفهومه، ولتحديد وظيفة الأدب في الحياة الاجتماعية والفردية نقل تودوروف اقتراح الفيلسوف
الأمريكي ريتشارد روني في مقاربة جديدة في هذا الصدد تتضمن طريقة مغايرة لوصف إسهام الأدب
في فهمنا للعالم ترفض استعمال مصطلحات مثل: حقيقة أو معرفة مؤكدا أنه لا يعالج جهلنا بقدر ما
يبرؤنا من عبادة الأنا والمعنى وهم الاكتفاء الذاتي. نعم لقد جعلت العلوم الإنسان مخلوقا مغرورا بنفسه
في الكثير من الأحيان كما جعلته الفلسفة يستغني عن الإله نفسه برغم عدم يقينيتها .
وتخضع وظيفة الأدب في الحياة إلى خلفيات فلسفية وفكرية مؤطرة تدرج الإنتاج الفكري و الأدبي
في سياقها الفكري والمنهجي الخاص، وتؤسس له ظهيرا نقديا يمنحه مبررات لوجوده، والأديب ليس
فردا عاديا من عامة الناس بل هو فرد متميّز ينقل لنا نسخة ممتازة عن الكون بتعبير سيد قطب الذي ألح
على وظيفتين للأدب هما الوظيفة الشعورية والوظيفة التعبيرية وملخص نظرته إلى الأدب أنه تعبير عن
انفعالات وتجارب على نحو فردي .
ويختلف الأدب عن العلم حيث لا يشترط فيه أن يضيف للقارئ علمًا جديدا حيث ينطلق من الحقائق
العلمية ناشدا من ورائها تحقيق تأثير معيّن وهو أشد تعقيدا من العلم لأن موضوعه هو الإنسان الذي هو
أكمل خلقا وأشدّ تعقيدا من المواد الطبيعية والأجهزة الآلية التي يستخدمها العلم بتعبيراته، وللأدب
وظيفتان نفعية وجمالية؛ فهو وسيلة للتواصل ذات طابع ممتع وتظل وظيفته الأساسية هي التعبير
والتصوير لما يعرض للإنسان في حياته ومجتمعه ونقل للتجارب و الانفعالات والتأثير في الآخرين....
إن همّ الأدب هو الإنسان في هذه الحياة مهما كان موضوعه أو الموقف الذي ينقله، وهو خطاب نوعي
يضع الإنسان في مواجهة العالم بأدق تفاصيله، وتبقى وظيفة الأدب رهينة التوجهات النظرية المختلفة .
هذه إضاءة مختصرة عن وظيفة الأدب في الحياة ، ننهي بها المحاضرات التي تدور حول مصطلح
الأدب و تقارب مفهومه.
نهاية المحاضرة
أ.ر.قماش
-
المحاضرة الرابعة: ماهية النظرية الأدبية
تمهيد:
أبنائي الطلبة الأفاضل يعتبر مقياس نظرية الأدب مقياسًا مهما ومفيدا جدا يمكّننا من الفهم
العميق للظاهرة الأدبية من مختلف جوانبها ، ومن حيث طبيعتها وخلفياتها الفكرية والفلسفية
وأبعادها التواصلية والنفعية والجمالية، ويوضح لنا الارتباطات الوجودية و الوظيفية بين الأدب
والنقد، وباقي المجالات الفنية والمعرفية التي تتفاعل معه في خضمّ الحياة الإنسانية بأبعادها الثقافية،
و الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية وحتى الدينية، وهو مقياس يفتح آفاقا معرفية ومنهجية
أمام الطلاب المختصين بمجال الأدب تعمق نظرتهم إلى الذات و العالم .
-1 النظرية:
أ/النظرية لغة: كلمة نظرية مأخوذة من )نظر( بمعنى أبصر ورأى وأصل الرؤية حاسة البصر
التي تختص بها العين، ومن معانيها الرأي والفكر وما يتصوّره الذهن .
ب/ النظرية في الاصطلاح )ابستيمولوجيا(: تعد النظرية في المفاهيم الفلسفية الغربية مجموعة من
الموضوعات القابلة للبرهنة، والقوانين المنتظمة التي تخضع للفحص التجريبي، وتكون غايتها
petit ( وضع حقيقة لنظام علمي، و هذا هو التعريف العام لها في معجم لاروس الصغير
وتعني النظرية عند الفرنسيين بشكل عام بناء ونسقا متدرّجا من الأفكار يتم الانتقال .)larousse
فيه من المقدمات إلى النتائج، وهي عند العرب قضية تثبت ببرهان أو دليل. وتعد بشكل عام
مجموعة من المفاهيم والتعريفات و الاقتراحات التي تعطينا نظرة منظمة لظاهرة ما عن طريق
تحديدها للعلاقات المختلفة بين المتغيرات الخاصة بالظاهرة، وذلك بغية تفسير تلك الظاهرة أو التنبؤ
بها مستقبلا، وهي من الوجهة العلمية التفسير الأفضل للحقائق التي نشهدها حولنا في الطبيعة
باستخدام الأساليب العلمية عن طريق الملاحظة والفرضيات والتجربة ، وهذه مفاهيم و مقاربات
تعميمية ذات طابع علمي تجريبي نجد لها صدى حتى عند أهل الأدب والنقد ، ومن ذلك المفهوم
مجموعة متناسقة من « : الذي وضعه غريماس وكورتاس في معجمها السيميائي إذ يريانها
و هو مفهوم » الاقتراحات الجديرة بأن تخضع للتحقيق وتقوم على الافتراض والتناسق والتدقيق
إجرائي مرض إلى حد كبير .
أما جوناثان كولر فيرى شرحا ما جديرا بكونه نظرية إذا كان واضحا ومنطويا على تعقيد معيّن
في الآن نفسه متجاوزا كونه فرضية واضحة، ويشترط فيه أن ينطوي على علاقات معقدة من
الصنف الذي يؤلف بين عدة عوامل ولا يمكن إثباته أو نفيه بسهولة )من كتابه النظرية الأدبية(،
ويرى كولر أن النظرية أمر يلقى الرعب في النفوس لأن أكثر سماتها المحيرة أنها لا نهائية ، وهي
شيء لا يمكنك إتقانه أبدا على حدّ قوله .
ت/ تاريخ النظرية: راج مصطلح نظرية بالمفهوم الحديث في اللغة الفرنسية منذ أواخر القرن
الخامس عشر سنة 1496 م ويعود إلى جذر يوناني لاتيني يعني الملاحظة والتأمل، أما في اللغة
العربية فهو مصطلح حديث مقابله النظر والنظار في الفكر العربي القديم بحسب ما ذهب إليه
الدكتور عبد الملك مرتاض في كتابه )نظرية النص الأدبي( .
ث/ النظرية الأدبية ونظرية الأدب: أصبحت النظرية عموما والأدبية خصوصا تخصصا قائما بذاته
له أنصاره وخصومه ، حيث ألف في نظرية الأدب عدد من المؤلفين المعروفين عالميا أبرزهم
طوماتشيفسكي سنة 1925 والثنائي رونيه ويليك وأوستن وارن سنة 1948 وتودوروف سنة
1965 وتيري إيجلتون وجوناثان كولر وتأثر بهم من العرب أمثال عبد المنعم تليمة وشكري عزيز
الماضي.... إلخ .
وكانت للمفردة صلة وطيدة بالرياضة وشهود المباريات والجري في الحضارة اليونانية ، ثم ما
لبثت أن أخذت ظلالا سياسية ودينية، ولما انتقلت إلى اللاتينية تعمقت دلالتها التأملية العقلانية.
والنظرية منذ أفلاطون وأرسطو على صلة بقضايا الإنسان العامة، وكانت المعرفة النظرية عند
أرسطو تجعل من مالكها سيدًا يصدر الأوامر ولا يستقبلها مما أوحى بظلال طبقية لمفهومها على
حساب المعرفة التطبيقية التي تجعل من مالكها خادما بالضرورة، وبقي مجال النظرية محصورا في
المجال التأملي الخالص بعيدا عن الغايات والمنافع الأمر الذي فضح تحيزها الطبقي ونخبويتها
وطوباويتها .
وخلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين برزت النظرية كمحطة جدل ونقاش في حقل
دراسات الأدب وتمحور النقاش حول علاقتها بالمعرفة والتجربة وعلم الجمال ، وبالتالي فإن
ارتباطها بالأدب
بوصفه تخصصا مؤسساتيا جعل من المحتم إرساء قواعد جامعة له، ويعود الاهتمام بالنظرية إلى
النقد الجديد وإلى نقد النماذج العليا الذي أرسى أسسه نورثروب فراي، و تستهدف النظرية في هذا
المجال تأمل المعنى والتركيز على الفهم وليس الحقائق أو الكون التي هي من اهتمام العلم، ومن
شأن هذا الأمر أن يُبعد النقد أو النظرية عن ذاتية التجربة الجمالية، واستهدفت النظرية الحديثة
الحاجز القائم بين االنظرية والتطبيق لتستجوب تحيزاته وفرضياته الخفية. وأثبتت وعيها بإشكالاته
الأيديولوجية والمعرفية.... ولعل أهم مكاسب النظرية الحديثة هو كشفها انغماس التنظير بالتطبيق
وانغماسها هي نفسها بما تقاربه من مادة، وكشفها أن ما نخلص إليه من نتائج إنما هو غالبا نتيجة لما
نفترضه مسبقا، كما أنها كشفت لنا أن فعل القراءة ليس على ما ندعيه من براءة .بل هو موجه
و مقنن مسبقا ، إذ إن فهمنا و تأويلنا للنصوص بل حتى تقييمنا لعواطفنا في صيرورة القراءة إنما
هي نشاطات لا تأتي إلا من خلال ما يحدّها من سياقات ثقافية وتاريخية وعلاقات اجتماعية كما
يقول )ديفيس شلايفر(.
ومن أهم انجازات النظرية أنها كشفت القناع عن الخلط المأساوي بين وظائف اللغة المختلفة
وكيف يتأتى لهذا الخلط أن يحجب آليات الأيديولوجيا الفجة . فالألسنية المنوطة بمفهوم شعرية أو
أدبية اللغة كشفت علاقة الطبيعة الإحالية في اللغة ثم كيفية اختلاط هذه الطبيعة بالواقع العيني في
توجهات النقد التقليدي؛ إذ يقول بول ديمان شارحا الفكرة؛ الأيديولوجيا هي خلط الوظيفة الإحالية
في اللغة بالظاهرة الطبيعية أي المرجع العيني، ولا يمكن الكشف عن تجذر هذه الأيديولوجيا من
غير الألسنية الأدبية التي تقلل من هيمنتها من خلال الوعي بوجودها) ينظر، دليل الناقد الأدبي( .
قد تبدو الشروحات السابقة مرافعة جيدة ضد الأيديولوجيا لصالح الجانب الشعري للأدب لكنّها
ليست سوى مشروع لإرساء معالم نظرية ما لمقاربة الأدب ليست أكثر حيوية من الرؤية
الأيديولوجية له في ظل النقد الماركسي إبان صعوده ، أو أية نظرية أخرى تهاجمها وتحاول حجبها
إنه خطاب حجب ضد الحجب وهكذا، ولعلنا نفهم أكثر وجاهة هذا الاعتراض إذا وقفنا أمام مقتطف
من مقال لعزالدين إسماعيل في مجلة ثقافات البحرينية سنة 2004 يكشف لنا تعدد مداخل نظرية
ونظرية الأدب كما هو معروف ومتداول نظرية متشعبة الجوانب وكثيرة المداخل «: الأدب يقول فيه
كما أنها تتطلب كثيرا من التحديد المبدئي لعدد من المفاهيم والمصطلحات، ولذلك يتعين لكل إنسان
له اهتمام بالموضوع أن يحدد لنفسه منذ البداية مدخلا منهجيا يعينه حتى لا يضل في سراديب هذه
. » النظرية وفي آفاقها المتشعبة والمتشابهة
وحتى لا نضل في سراديب ومسالك النظريات الأدبية المصطرعة نحاول الحديث عن نظرية
الأدب من الخارج فنقول بأنها مجموعة من الأفكار القوية والمتسقة والعميقة والمترابطة والمستندة
إلى نظرية في المعرفة أو فلسفة محددة والتي تهتمّ بالبحث في نشأة الأدب وطبيعته ووظيفته من
منطلق شمولي في سبيل استنباط وتأصيل مفاهيم عامة تبين حقيقة الأدب وآثاره . ولنظرية الأدب
صلة وثيقة بالنقد وتاريخ الأدب والأدب المقارن والأدب العام وغيرها من المجالات، كما يجب أن
نضع في حسباننا أن كل واحدة من نظريات الأدب المختلفة ما هي إلا نتاج لمرحلة حضارية
وتاريخية معينة لكنها ليست محدودة بحدودها فقد تتوهج في فترة ثم تخبو في أخرى أو العكس ،
و قد يتعدى أثرها الفترة التي أفرزتها.
*ضد النظرية:
تطلق هذه التسمية أو هذا الوصف على أحد الاتجاهات التي ظهرت في مرحلة ما بعد البنيوية
كردة فعل لكثرة التنظيرات التي ازدهرت في تلك المرحلة، فقد رأى مجموعة من الفلاسفة والنقاد
أن ما يعرف بالنظرية - ويقصدون أية تركيبة معرفية لغوية تدعي صفة النظرية- إنما جاء كنتيجة
محاولة خاطئة في المقام الأول لفرض معايير تفسيرية أو تقويمية كلية على ظواهر نستعصي
طبيعتها التعددية و المتنوعة على الاختزال في أنموذج تفسيري أو تقويمي أو تحليلي واحد، وهو ما
تسعى النظرية عادة إلى تحقيقه، ومن الأمثلة الكثيرة على ذلك البنيوية والماركسية اللتان تحاولان
بصرامة منهجية إعطاء تفسيرات واضحة بل وآلية لظواهر ثقافية وأدبية متباينة إلى حد التنبّؤ بما
سيحدث لظاهرة ما .
وأخد هذا التوجه بالبروز منذ أوائل الثمانينيات حيث نشر الأمريكان ستيفن ناب و والترمايكلز
مقالة عنوانها)ضد النظرية( سنة 1982 م ووصفا فيها النظرية بأنها محاولة للسيطرة على تفاسير
نصوص مختلفة بالاستعانة بنظرية عامة للتفسير، وهذا غير ممكن في نظرهما لأنه يستحيل التحكم
بالممارسة من خارجها. وممن هاجموا النظرية ستانلي فش وإيريك رونالد هيرتش و.و.ج.ث.
ميشيل مؤلف كتاب )ضد النظرية: الدراسات الأدبية والدرائعية الجديدة ( 1985 م. والفيلسوفان
ريتشارد رورتي الأمريكي
و جان فرانسوا ليوطار الفرنسي من خلال كتابه ) الحالة ما بعد الحداثية( سنة 1984 وقد صدرت
new = نسخته الأولية قبل سنة 1979 م، وانتظمت جهود هؤلاء في إطار الذرائعية الجديدة
لكن أفكار هؤلاء لا تبرء من تهمة التعالم الفارغ الذي يحاول نقض الأبنية الفكرية التي أثبتت . pragmatism
رسوخها و وجاهتها إلى حد لاقى قبولا واسعا .
ج/ مجالات نظرية الأدب:
- البحث في نشأة الأدب من خلال رصد العلاقة بين الأدب و المبدع .
- البحث في طبيعة الأدب من خلال تتبع خصائص النصوص والأجناس الأدبية وملامحها
الشكلية و المضمونية .
- البحث في وظيفة الأدب بالنسبة للمبدع والمتلقي على السواء .
- يجب أن تراعي أيضا محاولة المقاربة للظاهرة الأدبية التفاعل بين أركانها الثلاثة) المبدع –
النص – المتلقي(، كما يجب أن تستند إلى تصور نظري مسبق يحدد وضع كل ركن و دوره .
- يهتم المنظر الأدبي بالنصوص لأجل استنباط قوانين عامة وشاملة توضح حقيقة الأدب لأجل
إصدار أحكام انطباعية تأثرية على غرار انتقاء أو بيان ظروف كتابة النص وصاحبه كما يفعل
مؤرخ الأدب أو يتبع مكانة بعض النتاجات الأدبية على مذهب هذا الأخير كذلك.
- عمل المنظّر الأدبي والنقاد والمؤرخ في هذا المجال عمل بعدي يأتي بعد صدور الأعمال لا
قبلها .
- تتبع نظرية الأدب علاقة الأدب بالفنون الأخرى و المعارف والظروف الاجتماعية والسياسية
والثقافية و الاقتصادية.
- كان لتطور الفلسفة في الغرب فضل كبير في توارد النظريات الأدبية المختلفة .
- الكثير من الأحكام والملاحظات التي تمسّ الفنّ وكذا النظريات تجري على الأدب باعتباره فنا
هو الآخر كذلك قد يجري الحديث عن الشعر ويدل على ذلك بشكل عام .
- كثير من الأفكار التي توردها النظريات الأدبية المختلفة ليست جديدة بالمطلق بل هي معروفة
لكن ما يميزها هو ترابطها وتكاملها والوعي بها من قبل النقاد والأدباء والفلاسفة والمفكرين.
ح/ الفرق بين النظرية و المنهج و المذهب:
هناك مجال كبير لفتح مناقشات إبستيمولوجية حول الفروق بين هذه المصطلحات المتقاربة وصلتها
بالأدب وفهم قضاياه، غير أن هذا المنهج مرتبط بالجانب الإجرائي و الآليات الموصلة للمعرفة، أما
المذهب فأكبر من كونه طريقة في التفكير أو مجرد إجراء لكنه منظومة تعطي صورة كلية وإجابة
عن السؤالين الأساسيين: ماهية الأدب وعلاقاته المتعددة .
أما النظرية فهي أشمل إذ تعادل إعطاء معرفة متكاملة حول الظاهرة الأدبية مركزة على كل
الجوانب على عكس المذهب الذي قد يفضل جانبا واحدا كالعقل أو العاطفة أو المجتمع أو غيره،
وينحصر المذهب في الجانب الإبداعي مرتبطا بظروف مكانية وزمانية محددة أما النظرية فممتدة
بلا حدود وتبقى أسئلتها أعمق وألصق بالنقد وتاريخ الأدب .
نهاية المحاضرة
أ.ر.قماش
-
المحاضرة الخامسة والسادسة: علاقة نظرية الأدب بتاريخ الأدب و بالنقد الأدبي
تمهيد:
هناك تداخل وتخادم بين نظرية الأدب وكل من النقد الأدبي وتاريخ الأدب والأدب المقارن
والأدب العام، ولا يمنع هذا استقلالية بعض هذه الفروع بميدانه وفلسفته الخاصة في التعاطي والمادة
الأدبية، إذ يقارب كل مجال من هذه المجالات الظاهرة الأدبية لأهدافه الخاصة مستخدما أدوات
إجرائية تقوده في النهاية إلى نتائج مختلفة .
-1 مجال نظرية الأدب:
تهتم نظرية الأدب بالنصوص الأدبية جميعها لا لتصدر الأحكام أو تقيم وإنما لتستنبط مبادئ عامة
شاملة بين حقيقة الأدب ومجال اختصاصه ومادته ووظيفته في الحياة الإنسانية بمختلف أبعادها .
-2 مجال تاريخ الأدب:
يتعامل تاريخ الأدب مع النص ليبين الظروف والملابسات التي أحاطت به وبصاحبه، ويضعه في
سياقه الثقافي والمعرفي العام بما يسهل شرحه وفهمه وبما يقود في النهاية إلى رسم خارطة زمنية
تخضع ضمنها النصوص إلى ترتيب وتبويب وفق أجناس وأصناف لتسهيل تناولها .
-3 مجال النقد:
ينشد النقد بيان مواطن الجودة والرداءة وأسبابها في النصوص ويصدر الأحكام بغرض التقييم
والتقويم، ويسعى من خلال ذلك إلى إشاعة ذوق سليم يعود بالنفع على القراء والأدب والمجتمع
ككل.
وستفيد نظرية الأدب كذلك من الأدب المقارن الذي يبحث الصلات بين الآداب القومية وبين
مظاهر التأثير والتأثر وأصول المذاهب والمناهج في مختلف الآداب وكذا التيارات والمدارس كما
يوجد تداخل كبير بينها وبين الأدب العام إلى حدّ الالتباس لكن النفس الفلسفي لنظرية الأدب يبقى
أمرا مميزا وهناك فرق بينهما وبين الأدب العالمي أو الآداب العالمية يتمثل في كون هذا الأخير
حصيلة تفاعل الآداب العالمية وفق قانوني الغلبة والجودة الفنية كما أن للأدب العالمي دلالة جغرافية
في بعض الأحيان الأمر الذي لا نجده في أهداف ومرامي نظرية الأدب ، فهي التفكير المجدد في
الظاهرة الأدبية وتتبع التفاعل بين الأطراف الفاعلة فيها عبر الجغرافيا والتاريخ .
-4 التمييز بين نظرية الأدب وتاريخ الأدب والنقد الأدبي:
تعد زاوية وغاية التعامل مع العمل الأدبي الفيصل في إثبات التمايز بين هذه المجالات؛ لأن الناقد
إذا وصف النص وحققه ودرس ما حوله من عوامل البيئة والشخصية وعوامل الإيحاء أي حقق
صلة بينه وبين منتجه، وبينه وبين ظروف الحياة من حوله كان هذا تاريخ أدب حسب جون هاليزن.
أما إذا حكم عليه ووصف انفعاله به فإن ذلك يعد نشاطا نقديا وذلك ما يذهب إليه أناتول فرانس، غير
أن الاقتصار على حقيقة النص وصفاته وآثاره العامة دون إصدار أحكام قيمية فذلك تنظير أدبي .
إن تاريخ الأدب والنقد يقتربان من النص لإصدار أحكام أما نظرية الأدب فتتعامل مع حقيقة
الظاهرة الأدبية محاولة كشف أسرارها بلا انفعال أو إصدار أحكام متصلة بالجودة والرداءة وهي
بذلك تقربنا من ماهية الأدب وتجعلنا نفهم أكثر وضعه في هذه الحياة وضرورته أيضا . ويجب أن
نضع في الحسبان النظرة الأمريكية التي تعتبر الأدب العام و نظرية الأدب و الأدب المقارن
مصطلحات تدور حول مبحث واحد هو الأدب في مقابل النظرة الفرنسية التي حاولت الفصل بين
هذه المصطلحات في بدايتها و قد ادعى بعض منتسبيها ) أصحاب كتاب ما الأدب المقارن ؟ ( أن
روني ويليك و أوستن وارن لم يصلا إلى حل حول مسألة التواصل بين الأدب المقارن و نظرية
الأدب.
نهاية المحاضرة
أ.ر.قماش
-
المحاضرة الثامنة: نظرية المحاكاة
تعتبر نظرية المحاكاة أول نظرية في الأدب، ظهرت في القرن الرابع قبل الميلاد و صاغ مبادئها
أفلاطون ومن بعدة تلميذة أرسطو، ولا خلاف بين المفكرين والنقاد في أن أفلاطون كان حكيما
وفيلسوفا بارعا لكن آراءه التي تتصل بالأدب والفن ظلت محيرة ومثار تفسيرات عديدة عند الكثير
من الكتاب والنقاد لقرون طويله . تحدث أفلاطون عن فن الشعر في كتاباته التي جاءت على شكل
محاورات وأهمها ) محاورات إيون / الجمهورية / والقوانين ( ، ولم يخصص أفلاطون كتابا مستقلا
يعالج فيه ظاهرة الأدب فآراؤه تستقى من هذه المحاورات ولعل أكثر آرائه حول حقيقة الأدب
موجودة في كتابه ) الجمهورية ) ، حيث يصنف الناس ويحدد وظائفهم وكان لا بد أن يحدد وظيفة
الشعراء ودورهم فيها .
و يرى أن كل الفنون قائمة على التقليد وهي محاكاة للمحاكاة وينطلق في هذا من إيمانه واستناده
إلى الفلسفة المثالية التي تقر أن الوعي أسبق في الوجود من المادة ، حيث يرى الكون مقسما إلى :
العالم المثالي والعالم المحسوس الطبيعي، والعالم المثالي هو العالم المتمثل في المثل والحقائق
المطلقة والأفكار الخالصة والمفاهيم الصافية، أما العالم الطبيعي ) المحسوس( أو عالم الموجودات
فهو بكل ما يحتويه من أشياء وأشجار وأنهار وأدب ولغة مجرد صورة عن عالم المثل الأول الذي
خلقة الله وبتعبير آخر؛ إن العالم الطبيعي هو محاكاة لعالم المثل والأفكار لذلك فهو ناقص ومزيف
وزائل . فالأشجار المتعددة في العالم الطبيعي هي مجرد محاكاة لفكرة الشجرة الموجودة في عالم
الأفكار والمثل، وتعدد الأشجار في العالم الطبيعي هو علامة على تعدد الأفكار وعدم تطابقها . ثم إن
الشاعر يحاكي العالم الطبيعي المحسوس فيصبح عمله محاكاة لما هو محاكاة أصلا . وبالتالي فإن
الشاعر عندما يقول شجرة فإنه يحاكي صورة الشجرة الموجودة في الطبيعة والتي هي أصلا محاكاة
لفكرة الشجرة الموجودة في عالم المثل و الأفكار .
نص لأفلاطون يبين موقفة .
يوضح أفلاطون أفكاره عن الأدب في كتابة العاشر من الجمهورية من خلال الحوار الذي دار بين
" سقراط " الفيلسوف الذي ينقل أفكار أفلاطون وبين " جلوكون " الذي يمثل الإنسان العادي . ومما جاء
في هذا الحوار ما يلي :
» اذن فلنبدأ بطريقتنا المألوفة فنقول : كل ما كان لعدد من الأفراد اسم مشترك كان لهم فكرة مقابلة أو
قالب مقابل اتفهم ما اقول ؟
نعم أفهم .
فلنتناول أي مثل شائع ؛إن في العالم سرر وموائد عدد عظيم منها اليس كذلك ؟
نعم . ولكن ليس هناك فكرتان أو قالبان لهما فكرة أو قالب لسرير وفكرة أو قالب للمائدة صحيح .
و صانع كل منهما يصنع السرير أو المائدة لكي نستخدمه ونستخدمها وفقا للفكرة هذه هي طريقتنا في
الكلام في هذا المثال وأشباهه، ولكن ما من صانع يصنع الافكار نفسها الا ترى هذا محالا ؟
نعم محال وهناك فنان آخر أحب أن أعرف رأيك فيه .
ومن يكون هذا؟
فنان هو صانع كل ما يصنعه سواه من الصانعين أجمعين .
يا له من رجل فذ .
مهلا ... فستجد أسبابا أخرى للإعجاب به فهو لا يستطيع فقط أن يصنع الأواني من كل نوع ولكن
يستطيع أيضا أن يصنع النباتات والحيوانات، أن يصنع نفسه وكل ما عداه؛ الأرض والسماء وما في
السماء وما في بطن الأرض وهو يصنع الآلهة أيضا .
لابد أن يكون ساحرا على وجه اليقين !
إنك لا تصدقني أليس كذلك؟ أتقصد أن مثل هذا الصانع أو الخالق لا وجود له أم تقصد أن صانع كل
هذه الأشياء قد يكون له وجود بمعنى من المعاني وقد لا يكون له وجود بمعنى آخر؟ أترى أن هناك
طريقة يمكنك بها صنع كل هذه الاشياء بنفسك؟
أية طريقه؟
طريقة سهلة في متناولك أو على الأصح هناك طرق عديدة يمكن بها تحقيق هذا العمل العظيم
بسرعة ويسر . فليس هناك أسرع من إدارة مرآة في كل اتجاه، وبالمرآة تستطيع على الفور أن تصنع
الشمس والسماوات وتصنع الارض وتصنع نفسك وتصنع الحيوان والنبات وكل ما عداها من الأشياء
التي كنا نتحدث عنها منذ لحظه .
نعم ولكنها لن تكون إلا مظاهر فقط .
أحسنت ... فانك تصل الآن إلى النقطة التي أرمي إليها . والمصور أيضا في تصوري مثل هذا
الصانع تماما هو خالق مظاهر أليس كذلك ؟ ولكن أظنك قائلا أن ما يخلقة زائف ومع ذلك فبمعنى من
المعاني فإن المصور يخلق سريرا أيضا .
نعم ولكنة لا يخلق سريرا حقيقيا . وما أمر صانع السرير؟ أنه هو أيضا لا يصنع الفكرة التي هي في
رأينا جوهر الصغير وإنما يصنع سريرا معينا .
نعم قلت هذا .
إذا، فما دام لا يصنع ما هو موجود فهو عاجز عن صنع الوجود الحقيقي وإنما يصنع فقط نوعا من
الوجود ولو أن أحدا قال أن عمل صانع السرير أو عمل أي صانع آخر له وجود حقيقي فمن المتعذر
الظن بأنه يقول الحق .
على كل حال الفلاسفة قائلون أنه لا يقول الحق .
إذن فلا غرابة أن يكون صنعة تعبيرا غامضا عن الحقيقة .
نعم لا غرابة .
أفترض الآن أننا نبحث على ضوء ما تقدم من الامثلة ما يكون هذا المقلد؟
تفضل .
عندنا الآن ثلاثة سرر : سرير موجود في الطبيعة صنعة الله كما اعتقد أن في امكاننا أن نقول ليس
غير الله يمكن أن يكون صانعة أليس كذلك؟
نعم)بلى( .
وهناك سرير آخر من صنع النجار.
نعم .
ثم أليس صنع المصور سرير ثالث ؟
نعم)بلى( .
فالسرر إذا ثلاثة أنواع ،وهناك ثلاثة فنانين يتولون صناعتها : الله و النجار صانع السرير
والمصور . ؟
نعم هناك ثلاثة سرر .
فالله إما باختياره أو بحكم الضرورة صنع سريرا واحدا في الطبيعة ،واحدا لا سواه وهو لم يصنع قط
في الماضي ولن يصنع قط في المستقبل سريرين أ أكثر من هذا السرير المثالي .
وماذا نقول في النجار أليس هو أيضا صانع السرير؟
بلى .
ولكن أتسمي المصور أيضا خالقا وصانعا؟؟
قطعا لا؛ أظن أن في مقدورنا أن نسميه ونحن منصفون " مقلد ما يصنعه الآخرون "
هذا جميل إذا فانت تسمي الثالث في البعد عن الطبيعة مقلدا .
بالتأكيد »
يوضح هذا النص موقف أفلاطون الفلسفي والأدبي، فالله هو الذي خلق فكرة السرير وهي الحقيقة
المطلقة الخالصة التي توجد في عالم المثل ،والنجار يحاول أن يحاكي تلك الفكرة وبديهي أن لا يكون
التطابق كاملا بينهما لذلك يأتي عمل النجار ناقصا . ثم يأتي الشاعر فيحاكي ما قام به الصانع النجار
فيصبح عملة محاكاة للمحاكاة ويبتعد عن الحقيقة الخالصة بدرجات . و هو يرى أن عمل الأديب يشبه
عمل المرآة أي أن محاكاته للأشياء فوتوغرافية لا تقدم لنا سوى صور مزيفة لا حاجة لنا بها لأن ما
نحتاجه وما ينفعنا هو الأصل وليس الصورة . ثم إذا قام الشاعر بتصوير الظواهر بشكل غير حرفي
كأن يزيد عليها أو ينقص منها فيصبح بذلك غير صادق في ما ينقل، ولذلك أخرج الشعراء من
جمهوريته . ولكي يمعن في إدانتهم يضيف بأن الشعراء لا يعرفون أصلا أي معلومات عن
الموضوعات التي يحاكونها؛ فهوميروس يصف المعارك ولكنه لا يعرف شيئا عن التكتيك العسكري
والخطط الحربية ..
و يرفض أفلاطون تبعا لذلك الشعر والفن لأنه لا يعالج الحقيقة بل يكتفي بتمثيل معطيات الحواس
التي هي في حد ذاتها صورة ممسوخة للحقيقة وبعيدة عنها بثلاث درجات . وبذلك يجد مدخلا لإدانة
الشعراء وهو أنهم يخاطبون العاطفة أكثر مما يخاطبون العقل، وأن شعرهم يبعد الناس عن استخدام
العقل ويجعلهم أكثر عرضة للاستسلام للعواطف ، و يصف الشاعر بأنه : مخلوق خفيف محلق لا
يخترع شيئا حتى يوحي إلية فتتعطل حواسة ويطير عنة عقلة فاذا لم يصل إلى هذه الحالة فإنه لا
حول ولا قوة، ولا يستطيع أن ينطق بالشعر ؛ فالشعراء في نظرة غير مسؤولين بل هم في الحقيقة
مجانين ومعفون من المسؤولية .
من خلال ما سبق يظهر أن بحث أفلاطون في ماهية الأدب ووظيفة كان منصبا على بيان أثره في
السلوك الانساني أي كان يدور حول الاخلاق والمعضلة الأخلاقية لذلك فصل أفلاطون بين المتعة
والمنفعة واهتم بالمنفعة وحدها . ومع ذلك فقد اعترف أحيانا بأن لدى الشعراء قدر من الحكمة كما
حذر في أحيان أخرى من فتنة الشعر وخطورته على الوظيفة الاجتماعية. و أما الشعراء المفسدون
للمثل العليا ولأخلاق الناس فطردهم من جمهوريته الفاضلة لكن حكمه هذا لم يكن مطلقا أي لم يشمل
جميع الشعراء فقد أدخل بعضهم بشروط، فأبقى على بعض أنواع الشعر التي تتمثل بالقصائد التي
تتغنى بالأبطال والالهة والعظام من المشاهير كما وضع شروط أخرى ، فلا يجوز للشاعر أن يكتب
أي قصيدة تتعارض مع ما هو شرعي وخير ، ولا يجوز له أن يطلع احدا على قصائده قبل عرضها
على القضاة وحراس القوانين .
ويمكن أن نقول في الاخير إن أفلاطون قد رفض فكرة الفن للفن ونادى بالفن الاخلاقي والملتزم
شكلا ومحتوى ، والقصائد التي يقبلها في جمهوريته هي القصائد الدينية و الشعر الذي يحفز
المحاربين و يحمسهم ، ويعد أفلاطون أول من ميز بين النقد الأخلاقي والنقد الجمالي وقد اهتم بالنقد
الأخلاقي وتأثير الفن والأدب على سلوك المواطنين . و اعتبر تأثير الشعر غير صالح وغير خير
بشكل دائم؛ لذلك طرد الشعراء من جمهوريته أو على الاقل قام بضبط أعمالهم ومراقبتها .
لقد أثارت آراء و أفلاطون مناقشة حادة، فهل الشاعر حقا كما يدعي مقلد غير مسؤول ؟ ولماذا
ندينه؟ وهل ينطق بالأكاذيب ويتكلم بشكل مزيف؟ وهل علينا أن ندين الشعراء لانهم يخاطبون
العاطفة أكثر مما يخاطبون العقل؟ وهل يهدف الشعر إلى المتعة فحسب أم أنه يجمع بين التسلية
والفائدة والتوجيه؟ كل هذه الأسئلة التي تتضمن اشارة إلى مجموعة من التناقضات جاوب عليها
أرسطو تلميذ أفلاطون الذي أسس لنظرية التطهير في الأدب و أعطى المحاكاة أبعادا أخرى.
المحاكاة عند أرسطو :
من المتفق عليه أن أفلاطون يعد بحق أول منظر للفن والأدب في التاريخ وقد استطاع تلميذه
أرسطو أن يضع أول كتاب نقدي في تاريخ البشرية هو كتابة)فن الشعر( معتمدا على آراء أستاذه،
لكنه لم يخف رفضة لها منذ البداية حتى النهاية . ويعد كتاب) فن الشعر( تعليقا وردا غير مباشر على
كتابات أستاذه أفلاطون مع أنه لم يذكر اسم أستاذه صراحة . ولا بد من التنويه بأن كتابة هذا قد هيمن
على العقل الأدبي والنقدي الاوروبي لمدة تزيد عن ألفي عام . كما يرى مؤرخو النقد الأدبي أن كتابة
يعد أهم مؤلف في تاريخ النظرية . كما يعد أرسطو صاحب أول جهد منهجي منظم في تاريخ نظرية
الأدب ولا يزال له أتباع وأنصار حتى اليوم . ويمكن القول إن نظرية المحاكاة قد ارتبطت بأرسطو
أكثر من ارتباطها بأفلاطون وذلك لأهمية المبادئ النظرية التي أرساها أرسطو في كتابة )فن الشعر(
ولعل عرضنا لآراء أرسطو كما جاءت في كتاب الشعر سيبين نظرته المتباينة والمتناقضة مع آراء
أستاذه أفلاطون وستظهر منهجه ورؤيته ودقته العلمية.
اولا: الشعر محاكاة :
يرى أرسطو أن الشعر نوع من أنواع المحاكاة وهو يستخدم المصطلح ذاته الذي استخدمه
أفلاطون لكنه يمنحه مفهوما جديدا مختلفا عن مفهوم أستاذه ، فاذا كان أفلاطون يرى أن الشعر
محاكاة للمحاكاة وبالتالي فهو صورة مزيفة ومشوهة عن عالم المثل فإن أرسطو قد قصر مفهوم
المحاكاة على الفنون، و حين يرى أفلاطون أن المحاكاة هي نقل حرفي فإن أرسطو يرى أن الأديب
حين يحاكي لا ينقل فقط بل يتصرف في هذا المنقول. بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين قال إن
الشاعر لا يحاكي ما هو كائن ولكنة يحاكي ما يمكن أن يكون أو ما ينبغي أن يكون بالضرورة أو
الاحتمال؛ فاذا حاول الفنان أن يرسم منظرا طبيعيا مثلا ينبغي عليه أن لا يتقيد بما يتضمنه ذلك
المنظر بل أن يحاكيه ويرسمه كأجمل ما يكون أي : بأفضل مما هو علية . فالطبيعة ناقصة والفن يتمم
ما في الطبيعة من نقص لذلك فالشعر في نظرة مثالي وليس نسخة طبق الاصل عن الحياة لأن الشاعر
يحاكي الناس وأفعالهم كما هم أو بأسوء أو أحسن مما هم .
لعل ما تقدم يوضح مفهوم أرسطو الجديد للمحاكاة و لتوضيحه أكثر نقول: إن أفلاطون اعترف
بفتنة الشعر لما ينطوي على وزن وايقاع ولحن لكن أرسطو يؤكد أن ما يصنع الشعر ليس الوزن
والموسيقى وانما عنصر محاكاة العام الكوني أي : محاكاة المعاني الكلية العامة لا الخاصة وهذا يعني
محاكاة ما يمكن أن يحدث لا ما حدث بالفعل . وينقسم الناس على رأي أرسطو إلى قسمين أشرار أو
أخيار ، ولهذا يكون الذين يحاكون في الأدب إما شرا منا أو خيرا منا أو مثلنا لكن الشعر يصبح أكثر
جودة إذا حاكى ما يمكن أن يقع؛ فعنده : المستحيل الممكن خير من الممكن المستحيل . فالمؤرخ
هو والكاتب في العلوم يقلدان موضوعات ذات وجود جوهري وينبغي أن يأتي تقليدهم مطابقا للواقع،
أما الشاعر فغير مقيد بهذه المطابقة . فهوميروس عندما يقلد درع أخيل على الرغم من أن هذا الدرع
لم يوجد بتاتا، ومع ذلك فإن المحاكاة التي يقوم بها الشاعر ليست منقطعة عن العالم الواقعي وليست
تقليدا لمجرد درع أو لأي درع قد وجد في يوم من الأيام؛ فالشاعر هنا يصنع أشياء لم توجد من قبل
ومع ذلك فهو مقلد .
ثانيا : موضوع المحاكاة
لا يحاكي الشاعر في نظر أرسطو الأشياء ومظاهر الطبيعة فحسب . بل يحاكي أيضا الانطباعات
الذهنية وأفعال الناس وعواطفهم ، و المحاكى إما أن يكون مثاليا عظيما أو أقل مستوى؛ فالتراجيديا
تحاكي المثاليين العظماء والكوميديا تحاكي السفلة الأقل مستوى . ولكن ينبغي أن نبين أن أرسطو
يعتبر الشعر محاكاة لفعل الشخصية لا للشخصية بحد ذاتها ؛ فالشعر لا يصور شجاعة البطل المذكور
بالذات ولكنه يصور الشجاعة ممثلة في هذا البطل بشكل معين من أشكالها ، و التراجيديا لا تقلد
الشخصيات وإنما تقلد حركتها وتقلد سعادتها وشقاءها وكل سعادة وشقاء لا بد أن يتخذ صورة من
صور الحركة فالسعادة المطلقة والخير المطلق هو الهدف من الحياه ..... وبناء على ذلك فإن
التراجيديا لا تحاكي الحدث من أجل محاكاة الطباع على العكس أن محاكاة الطباع إنما هي جزء من
محاكاة الحدث أو بمعنى آخر محاكاة الحدث تتضمن محاكاة الطباع .
ثالثا : طبيعة الشعر .
جسد أفلاطون الصراع القائم بين الشعر والفلسفة وانحاز بشكل واضح لجانب الفلسفة في حين أن
أرسطو قد حاول أن يرد عليه بشكل غير مباشر محاولا أن يبين الطبيعة الفلسفية للشعر ، حيث يقول
في كتابة )فن الشعر(: إن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه وما هو ممكن على
مقتضى الرجحان ،فان المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو موزون، فحين تصاغ
اقوال هيرودوت في أوزان ستظل تاريخا سواء وزنت أم لم توزن ومن هنا كان الشعر أقرب إلى
الفلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ لأن الشاعر لا يروي ما وقع ولكن يروي ما يجوز وقوعه . ومن
هنا يرى أرسطو الشعر أقرب إلى الفلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ وأن الوزن والموسيقى ليس هو
الخاصية الأساسية للشعر بدليل أن كتابات هيرودوت التاريخية تصاغ على أوزان ومع ذلك تظل
تاريخا ولكن ما يميز الشعر عند أرسطو بشكل أساسي هو محاكاته العالم الكوني. ومنة فإن الشعر
يحاكي الحقيقة المثالية المجردة مما يجعله أقرب إلى روح الفلسفة أو أعظم فلسفة من التاريخ ،
فالشعر لا يشوه الحقيقة ولا يبتعد عنها بدرجات كما زعم أفلاطون ولا يقف على النقيض من الفلسفة
ولكن الشعر والفلسفة يهدفان إلى اجتلاء الحقيقة كل بطريقته .
رابعا : نشأة الشعر و مصدره .
ربط أفلاطون الشعر بقوى خارجة عن طبيعة الإنسان عندما أكد على الإلهام والوحي و أثرهما
في قول الشعر، و رفض أرسطو هذا المنطق تماما وقال إن الدافع إلى قول الشعر مرتبط بطبيعة
الإنسان فما يولد الشعر إنما هو غريزة المحاكاة وغريزة حب الوزن والايقاع ، فالمحاكاة غريزة
إنسانية والإنسان مفطور على حب النغم والموسيقى وبهذا خطا أرسطو خطوة واسعة جدا؛ إذ ربط
بين الشعر والطبيعة الإنسانية واعتبر الشعر ظاهرة بشرية . وتترتب على هذه الحقيقة نتائج هامة فاذا
قلنا بالوحي والإلهام فإن هذا يعني أننا نعيد الشعر إلى مصدر خفي وقوى لا نعرف عن كنهها أو
سرها . أما إذا قلنا مع أرسطو إن الشعر ظاهرة إنسانية فهذا يعني أنه جزء من النشاط الانساني يمكن
فهمة وتحليل ماهيته والتعرف على بواعثه ومهمته. ويضيف أرسطو أن غريزة المحاكاة توجد عند
الإنسان منذ الصغر وبها يحصل على معارفة ؛ و المحاكاة وسيلة للتعلم واكتساب المعارف ولا شك
في أن اكتساب المعرفة يؤدي إلى المتعة ، واذا كان الشعر شكلا من المحاكاة فلا بد أن يكون ممتعا
ومؤديا إلى التعلم . إذان فالفن والشعر يعلمنا أشياء جديدة والتعليم يعتبر متعة وإذا لم يعلمنا جديدا فنحن
نستمتع بمشاهدة ما كنا نعرفه .
خامسا: التطهير وظيفة الشعر.
إذا كان أفلاطون قد فصل بين المتعة والمنفعة وانحاز إلى المنفعة كلية فإن أرسطو يعد بحق من
أقدم النقاد الذين قالوا بالمتعة والمنفعة مستخلصة من دراسة العينة الوصفية، حيث قام أرسطو
بوصف آثار الأعمال الأدبية وفعلها في المتلقين ولم يقتصر عملة على وصف أثر هذه الاعمال في
المتلقين أثناء تلقيهم الاعمال الأدبية فحسب بل حاول أن يصف أثرها بعد عملية التلقي .
ومع أن أفلاطون وأرسطو يتفقان في أن التراجيديا تنمي عاطفتي الشفقة والخوف، فإنهما يختلفان في
بعض الامور؛ فبينما رفضها أفلاطون بسبب ذلك اعتبرها أرسطو أرقى اشكال الشعر للسبب ذاته .
فقد رأى أفلاطون أن التراجيديا تنمي عاطفتي الشفقة والخوف وتجعل الناس أكثر ضعفا أما أرسطو
فيؤمن بأن التراجيديا تنمي عاطفتي الشفقة والخوف لكنها تجعل المشاهدين أكثر قوة من خلال
التطهير؛ فعند مشاهدتنا لتراجيديا " أوديب ملك " مثلا ذلك الملك الذي قتل والدة وتزوج أمة دون أن
يعرف . وحينما عرف فقأ عينية وهام على وجهة فإننا نشعر بالشفقة على البطل التراجيدي كما أننا
نشعر بالخوف لأن ما حدث للبطل قد يحدث لنا، ومن خلال عاطفتي الخوف والشفقة تتطهر عواطفنا
فالتراجيديا تتيح لنا تصريف العواطف المكبوتة الزائدة : البكاء أو الضحك، وتجعلنا أكثر توازنا من
الناحية الانفعالية والعاطفية، فالمشاهد يشعر بالراحة والقوة بعد المشاهدة .
إن أثر التراجيديا في المتلقي أثناء المشاهدة تتمثل في أنها تجعله أكثر سرورا لأنها تريه العذاب
دون أن يتعذب ، كما تشعره بالتفوق إزاء الشخصية التراجيدية التي تتألم ثم نشعر في نهاية
التراجيديا بالسرور من خلال المماثلة التي نجريها في أذهاننا والمقارنة الضمنية التي توضح أن
عذابنا أقل من عذاب الشخصيات، فنشعر بالارتياح وربما بالقوة حين ندرك أن مشاكلنا وهمومنا
محدودة مقارنة مع ما كنا نشاهد من كوارث ومصائب؛ وبالتالي يجعلنا الأدب أكثر قوة وقدرة على
التصدي لمثل هذه المصائب وحلها ، و يطهرنا الأدب من عاطفتي الخوف والشفقة حيث يساهم في
التنمية المتوازنة لعواطف الفرد تجاه ذاته وتجاه الآخرين والوصول إلى انسجام وتناغم للعلاقات
البشرية ، حيث يعتبر أن عاطفة الخوف هي عاطفة الإنسان تجاه ذاته وعاطفة الشفقة هي عاطفة
الإنسان تجاه الاخرين . و نقر في الاخير إنه برغم أن روح كتاب " فن الشعر " لأرسطو كان تعليلا
وتعليقا وردا غير مباشر على كتابات افلاطون، إلا أن هذا الكتاب أظهر أرسطو فيلسوفا ومنطقيا
بالدرجة الاولى، وناقدا بالدرجة الثانية ،ومحبا للشعر بالدرجة الثالثة . وقد تفوق على أستاذة من وجهة
نظر نقدية معاصرة؛ حيث أن كتابة يتضمن أشياء لها قيمتها مثل قوله " الشعر أعظم فلسفة من
التاريخ " وقولة " الترجيديا تطهر العواطف وقوله بأن البطل التراجيدي لا ينبغي أن يكون مثاليا بشكل
مطلق بل يجب أن يكون طبيعيا مثلنا .
نظرية المحاكاة بين أرسطو و أفلاطون : .
انصب اهتمام نظرية المحاكاة على أثر الشعر في القراء أو المتلقين وهو جانب هام بلا شك من
جوانب الظاهرة الأدبية لكن دراسة أفلاطون خضعت للمعايير الأخلاقية . فهو يرى أن الشعر يفسد
الأخلاق وأرسطو يرى أن الشعر يهدف إلى إحداث توازن انفعالي ونفسي ) التطهير ( وبالتالي توازن
أخلاقي وسلوكي . وبرغم اختلافهما فإنهما ينتميان إلى اتجاه الفلسفة المثالية ويؤكدان على الوظيفة
الاجتماعية للشعر؛ وفي حين ركز أفلاطون على عنصري الوحي والإلهام فإن أرسطو لم يذكر
الإلهام في كتابة الشعر ولم يتحدث عن الوحي ولكنه أشار إلى الملكة وأكبر من شأنها ثم إنه راعى
الجانب النفسي .
نهاية المحاضرة
أ.ر.قماش
المحاضرة
-
المحاضرة التاسعة: نظرية الانعكاس
سادت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نزعة أدبية تدعو إلى ربط الأدب بالحياة
واصطلح على تسميتها بالأدب الواقعي ، وكان ذلك نتاجا للتقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي
والاجتماعي، وبظهور هذا الأدب الجديد ظهرت محاولات عديدة تربط بين الأدب والحياة أو البيئة أو
الوسط أو المحيط أو الواقع أو الظروف الاجتماعية؛ على ما في هذه العبارات من تباين، ولعل أهم
تلك المحاولات هي المحاولة التي قام بها "هيبوليت تين " في مقدمة كتابة " تاريخ الأدب
الانجليزي " الذي نشر عام 1868 والتي لقيت اهتماما من قبل النقاد والمفكرين ويرى تين أن هناك
ثلاثة عوامل تؤثر في الأدب :
1 الجنس - أو العرق أو النوع : ويقصد به الخصائص القومية، إذ يرى أن أدب أمة ما يختلف عن
أدب أمة اخرى، وهذا يعود إلى تباين الخصائص القومية التي تعني لدية تأثير المناخ والتربة
والعناصر الوراثية والعادات والملامح الجسدية .
2 - البيئة : يخضع الإنسان في بيئته لأوضاع حتمية هي التي تتحكم في الأدب والحياة العقلية و
تؤثر فيها ؛ فالمناخ في انجلترا مثلا يؤثر في تشكيل مزاج الفرد الانجليزي وبالتالي يؤثر في الأدب ،
و كذلك الأمر في البيئات الجغرافية و المناخية الأخرى .
3 الزمن - أو اللحظة التاريخية : وهو ما يجعل مفهوم البيئة متحركا ويعني به روح العصر أو مكان
العمل الأدبي من تاريخ التراث، وربما يعني به ما عبر عنه شاعر عربي قديم بقوله : " لكل زمان دولة
ورجال " ويقر تين أن الفن جوهر التاريخ وخلاصته، وهو يعبر بالضرورة عن حقيقة الإنسان في
زمن ومكان معينين، ويرى أن الأعمال الفنية وثائق وآثار، وأن الازمان تتركز في الأعمال
العظيمة .
ولعل أهم نقد وجه إلى هيبوليت تين كان من أستاذة " سانت بيف " الذي أبدى إعجابه بكتاب تين
لكنه أضاف بأن تين لم يتوصل إلى اكتشاف ما هو جوهري في طبيعة الشعر الأدبية ، و أضاف بأن
الأعمال الأدبية ليست سجلات تاريخية . وعلى أي حال فإن التين يقول بالأثر الحتمي للتربة والمناخ
في انتاج الأدب لكنه لا يقول بحتمية الأثر الاجتماعي في الإنتاج الادبي .
وفي أواخر القرن التاسع عشر ظهرت محاولة أخرى لتفسير الفن على أسس جديدة، و أثارت
اهتمام النقاد والمفكرين لكنها لم تخرج عن إطار الفلسفة المثالية شأنها شأن محاولة تين؛ هذه المحاولة
قام بها أديب فاقت شهرته حدود بلاده، واحتلت أعماله مكانة مرموقة في الأدب العالمي، هو " ليو
تولستوي " الذي حاول في كتابة) ما الفن؟ ( أن يكون داعية إلى فن يسعد الجماهير الفقيرة على وجه
الخصوص . وعيا منه بأهمية العلاقة بين الأدب والقراء عامة دون تمييز طبقي .
حظيت آراء تين وتولستوي باهتمام كبير إلى حد جعل البعض يطلق على آراء تين )نظرية تين
في الجنس والبيئة(، و على آراء تولستوي ) نظرية العدوى( ولقد أثرت آراء تين تأثيرا واسعا في
الدراسات الأدبية والنقدية ووصل تأثيرها إلى نقدنا العربي الحديث حيث تجلى في بعض كتابات طه
حسين و أبحاثه ، وقد ساهمت هذه النظرية في إيجاد تصورات جديدة تدرس الظاهرة الأدبية مهتمة
بالعلاقة بين الأدب والمجتمع ، و بالتركيز على وظيفة الأدب.
ظهور نظرية الانعكاس :
خلافا للنظريات الثلاث ) المحاكاة التعبير الخلق ( ولآراء تين التي استندت إلى الفلسفة المثالية؛
استندت نظرية الانعكاس في تفسير الأدب نشأة وماهية ووظيفة إلى الفلسفة الواقعية المادية ذات
الخلفية الجدلية الهيجلية و الواقعية الاشتراكية لاحقا ، هذه الفلسفة التي ترى أن الوجود الاجتماعي
أسبق في الظهور من وجود الوعي ، بل ترى أن أشكال الوجود الاجتماعي هي التي تحدد أشكال
الوعي . وقد استطاعت نظرية الانعكاس أن تقدم مفاهيم جديدة تماما عن نشأة الأدب وطبيعته
و وظيفته . ولعلها أكثر النظريات حيوية وقدرة على الاستمرار بفضل منهجها الذي يتسم بالحركة،
فبدلا من أن يضعف صوت أنصارها ويقل عددهم بعد مدة كما هو شأن النظريات السابقة، رأينا
عكس ذلك إذ ازداد عدد أنصارها محاولين بين الفترة والاخرى أن يطوروا من بعض قضاياها
ومفاهيمها ،وهو الأمر الذي جعلها تتجددة و تتطور ، إذا تغدت من أفكار لينين و بليخانوف
و لوكاتش و غولدمان... إلخ .
ولم تتميز نظرية الانعكاس بهذا فحسب بل إضافة إلى ما تقدم فإنها تتميز عن سائر النظريات
بكونها لم تركز على جانب واحد من جوانب الظاهرة الأدبية ) ركزت المحاكاة على المتلقي واهتمت
نظرية التعبير بالمبدع ونظرية الخلق بالعمل والنص الأدبي ( وانما تناولتها من كافة جوانبها . و لعل
استنادها إلى الفلسفة الواقعية المادية قد جعل منهجها مختلفا تماما، فلم تعتمد على الوصف والتأمل؛
بل حاولت أن تحلل وتعلل الظاهرة الأدبية باعتبارها جزءا من الظاهرة الثقافية عامة مع الاهتمام
بخصوصياتها واستقلاليتها النسبية عن بقية أنساق المعرفة والعلوم الإنسانية . وترى الفلسفة الواقعية
المادية و هي الاساس الفلسفي لنظرية الانعكاس أن الواقع المادي أي علاقات الإنتاج و قوى الإنتاج
وهي - تسميه البناء التحتي - تولد وعيا متجددا، هذا الوعي يضم الثقافة والفكر والفن، وهو ما تسمية
بالبناء الفوقي . وترى أن أي تغيير في البناء التحتي يتبعه تغير في بناء الفكر، أي إن التغيير في البناء
الاقتصادي والاجتماعي يؤدي إلى تغيير في شكل الوعي أو مجمل البناء الفوقي . غير أن العلاقة بين
البنائين علاقة جدلية؛ بمعنى إن الوعي أو البناء الفوقي يعود و يؤثر في البناء التحتي من خلال تثبيته
أو تحويره أو تعديله أو تغييرة .
ويمكن أن نمثل لهذه العلاقة بين البنائين التحتي والفوقي بانتقال المجتمع من العصر الاقطاعي إلى
العصر البرجوازي، حيث تغيرت أشكال الوعي والقيم والمفاهيم الفلسفية والادبية والفنية . فكل تغير
إذن في علاقات الإنتاج أو في البناء الاقتصادي الاجتماعي يتبعه في الضرورة تغير في رؤية مفهوم
المجتمع والانسان واللغة و الأدب والقيم ،وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تغير في الاشكال الأدبية من
حيث الموضوعات والأساليب والاهداف ،وهذا يعني أن الأدب انعكاس للواقع الاجتماعي .
وبما أن نشأة الأدب هي انعكاس للواقع الاجتماعي فان طبيعة الأدب لابد أن ترتبط بذلك الواقع
الذي أنتج فيه ،ومن خلال استقراء التاريخ و الفنون الأدبية العالمية يرى أصحاب نظرية الانعكاس أن
الكلاسيكية نتجت عن العصر الاقطاعي ، وأن الرومانسية ارتبطت بالثورة البرجوازية وأن التقدم
العلمي والتكنولوجي ولد المدرسة الطبيعية، وبدخول الطبقة العاملة على مسرح التاريخ ظهرت
الواقعية الاشتراكية ولذلك كله فإن الأدب صورة للواقع الاجتماعي الذي أنتجه أو أنتج فيه ،وإن
صورة الأدب تتغير بتغير صورة المجتمع . ولعل كل ما تقدم يثير أسئلة متعددة مثل : أليس الأدب
استخداما خاصا للغة؟ وما هو دور الفرد المبدع الأديب الذي يتميز عن غيرة من الناس؟ ثم إذا وجد
عدة أدباء في مرحلة اجتماعية واحدة وربما في طبقة اجتماعية واحدة فهل يفرض هذا تماثلا
لإنتاجهم؟ ثم هل يعني تقدم المجتمع تقدما في الأشكال الأدبية؟ مثل هذه التساؤلات لم يغفلها أصحاب
نظرية الانعكاس، بل حاولوا الإجابة عنها .
إن التغيرات الاجتماعية تفرض تبدلا في الرؤى والمواقف والمفاهيم، وكذلك تغيرا في الأشكال
واللغة . والأديب عضو في جماعة، إنه كائن طبقي أو مجموعة من العلاقات الاجتماعية، اذ لا وجود
للفرد المطلق لأن الفرد خارج المجتمع هو خارج نفسه . والأديب لا يبدأ من الصفر فهناك مواد سابقة
مثل العادات والتقاليد ودرجة التطور الاجتماعي والأدبي . كل هذه الأمور تؤثر في الأديب ؛ أي إنه
يتأثر بالجماعة أو الطبقة التي ينتمي اليها كما يؤثر فيها ثم إنه يقدم إنتاجه إليها، فالأديب هو الأداة
التي يعبر المجتمع عن نفسه من خلالها، أو اداة الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها . صحيح إن الأديب
هو الذي ينتج العمل الأدبي ولكن لولا المجتمع لما استطاع الأديب أن ينتجه؛ إن الابداع فعالية
اجتماعية وإن بدا فرديا للوهلة الاولى .
وطالما أن الأديب عضو في جماعة يؤثر فيها ويتأثر بها، وطالما أنه يكتب لكي يعبر عن علاقته
بالمجتمع؛ فإن مشكلته الخاصة جزء من مشكلة الجماعة وهو يمزج الخاص بالعام أو الفردي
بالجماعي لكي يحقق لتجربته الأدبية شرطا أساسيا من شروط نجاحها؛ وهو التواصل مع القراء .
وحتى على صعيد اللغة نجد الأديب يتعامل مع ظاهرة اجتماعية وأسلوبه الخاص نتاج للتفاعل مع
اللغة، هذا التفاعل يتم عبر صراعات مع الطرفين؛ فالأديب يجتهد في كبح جماح اللغة وتطويعها
لتخدم له هدفا محددا، فهو مقيد بمستوى لغوي معين يحدده الوضع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي
للمرحلة التي يعيش فيها، و هو بلا شك يستخدم اللغة المألوفة لغة الجماعة بطريقة خاصة ولكن
حتى هذا الاستخدام يحدد برؤية الأديب للغة ووظيفتها ونوعية الجمهور الذي يخاطبه . من كل هذا
يتضح أن الأسلوب أو الشكل له دلالة اجتماعية ولا شك في أن مضمون العمل الأدبي هو كذلك نتيجة
للتفاعل بين الأدب والظاهرة الاجتماعية والحياتية العامة .
بيد أن تواجد عدة أدباء ينتمون إلى طبقة اجتماعية واحدة ويعيشون في ذات المرحلة لا يفرض
بالضرورة تماثلا في إنتاجهم الأدبي، مع أن المرء يستطيع أن يستنبط ملامح مشتركة بين الأعمال
الأدبية التي تعود إلى مرحلة اجتماعية واحدة . كما أن تقدم المجتمع لا يعني بالضرورة تقدما في
الأشكال الأدبية ولا تؤدي انتكاسة المجتمع بالضرورة إلى انتكاسة الأدب، لأن العلاقة بين الأدب
والمجتمع ليست متوازية بل هي متداخلة و معقدة . ثم إن الأعمال الأدبية الحديثة ليست أكثر فنية من
الأعمال القديمة؛ لأن تطور الأدب يختلف عن تطور بقية المجالات و الميادين ، و يعود هذا إلى
طبيعة الأدب . و لا تزال بعض الأعمال الأدبية القديمة تمتع قراءها وتستمر فنيتها إلى أيامنا، هذا
لأنها استطاعت أن تعكس ما هو جوهري في مرحلتها.
و تحدث جورج لوكاتش في كتابه ) التاريخ و الوعي الطبقي ( عن كون الأدب انعكاس و وسيلة
للصراع الاجتماعي في المجتمعات الرأسمالية حيث احتدام الصراع بين نمطين من الوعي أو
الانعكاس انعكاس طبيعي زائف تكرسه البورجوازية المهيمنة و وعي أو انعكاس واقعي صادق
تحاول إقراره الطبقة البروليتارية الكادحة ، و تسعى الطبقة البورجوازية المهيمنة إلى تكريس رؤيتها
للعالم كرؤية وحيدة ممكنة في معركة الوعي التي تخوضها ضد الطبقات المناهضة لها ممثلة في
البروليتاريا هذه الطبقة التي تعمل من خلال أدبها على فضح الواقع الطبقي الذي تحاول الطبقة
المسيطرة تغطيته من خلال إنتاجها الأدبي . و ظهرت البنيوية التكوينية باعتبارها فهما خاصا
لوضعية الأدب كنوع من أنواع الوعي الاجتماعي و منهجا لتحليل و تفسير الظاهرة الأدبية على يد
لوسيان غولدمان من خلال كتابيه ) من أجل سوسيولوجيا الرواية ( و ) الإله الخفي( و قد استفاد
من أفكار لوكاتش حول علاقة الأدب بالوعي الطبقي، و طور مفهوم رؤية العالم و أضاف تصورات
و مصطلحات جديدة منطلقا من فرضيات مفادها أن : تفسير الأعمال الأدبية الكبرى من حيث بنيتها
الفكرية العامة و الأهداف المرسومة فيها لا يتأتى بالرجوع إلى الأفكار المباشرة للكاتب لأن الكتاب
ملتقى مؤثرات مختلفة ترتهن إلى بنيات متعددة .
و المبدع الحقيقي لتلك الأعمال هو الفكر الذي نشأ في حضن الجماعة التي ينتمي إليها الكاتب أو
يعبر ضمنيا عنه . دور المبدع حاضر من خلال الصياغة الفنية للعمل الأدبي و هي صياغة تماثل
رؤية العالم التي حركته و لكنها تمتاز عنها لكونها تدفع مضامين تلك الرؤية إلى أقصى ما تصبو إليه
إن الخاصية الجماعية لإبداع الأدب تأتي من أن بنيات عالم « : الجماعة ، و يقول في هذا الصدد
النتاج الأدبي تكون متطابقة مع البنيات الذهنية لإحدى الجماعات الاجتماعية أو ترتبط بعلاقات
واضحة معها . أما على مستوى المحتويات أي كل ما له علاقة بخلق عالم تخييلي ، فإن الكاتب تكون
له حرية كاملة . و على هذا الأساس فإن استخدام المظهر المباشر لتجربته الفردية من أجل خلق
عوالمه التخييلية أمر معتاد و داخل في حيز الإمكان إلا أنه لا يمثل أبدا أمرا أساسيا كما أن الكشف
. » ... يعتبر مهمة نافعة لكنها ثانوية في نطاق التحليل الأدبي
ومن المفيد أن نذكر موقف نظرية الانعكاس من القارئ الذي يختلف عن موقف النظريات الثلاثة،
فنظرية المحاكاة ترى أن الأدب يطهر عواطف القارئ، ونظرية التعبير ترى أن مهمة الأدب هي
إثارة الانفعالات و العواطف لدى القارئ . أما نظرية الخلق فترى أن الأدب يسلي القارئ ويخلق لديه
إحساسا بالمتعة وبالجمال الخالق . من كل هذا يتبين أن القارئ مجرد متلق للعمل . أما نظرية
الانعكاس فتنظر للقارئ كمتلق ومشارك بشكل غير مباشر في عملية الابداع، فالأديب يكتب إلى
جمهور من القراء له مستواه العلمي والثقافي ووعيه الفني ولذلك فإنه حين يكتب لابد أن يأخذ بعين
الاعتبار كل هذه القضايا وهذا يؤثر في تشكيل وصياغة العمل الأدبي . فالأديب الذي يتوجه بكتابته
إلى جمهور غير متجانس ثقافيا وعلميا، يفرض عليه ذلك الجمهور أن يخاطبه بأسلوب يتسم بالبساطة
والوضوح ، وفي الجهة المقابلة على الأديب الذي يتوجه بأدبه إلى النخبة المثقفة أن يكتب بأسلوب
آخر . ومع أن هذه القضية معقدة فإن ما يعنينا هنا أن جمهور القراء ليس سلبيا أي ليس مجردة متلق
للأعمال وانما له حضور غير مباشر فالجمهور ونوعيته يتدخل في تشكيل الأعمال الأدبية وهو ما
يؤكد أن الإبداع الأدبي فعالية اجتماعيه.
وحين نتحدث عن وظيفة الأدب في ضوء نظرية الانعكاس ينبغي أن نعلم أن هذه النظرية ترى أن
الإبداع الأدبي فعالية اجتماعية، وهذا يعني أن الأدب تجربة إنسانية فالأديب يهدف من وراء تجسيد
رؤيته بشكل جميل لا اظهار براعته الفنية أو مهارته اللغوية أو استعراض ثقافته؛ بل يهدف إلى أن
نشاركه التجربة بشكل يؤدي إلى تغيير وجهة نظرنا كقراء أو تعديلها أو تأكيد ما كنا نؤمن به؛ فالعمل
الأدبي قد يغير موقف بعض القراء تجاه المجتمع، وقد يعدل أو يؤكد مواقف آخرين . وحصيلة كل ذلك
خلق نوع من الاتساق الفكري والشعوري في الموقف الجماعي . فالأدب يخاطب العقل والشعور
ويهدف إلى شحذ قوة الإدراك و وإيقاظ الوعي وتنويره وتحفيزه ، وإلى فهم العالم أكثر، وإلى مساعدة
الناس على إدراك واقعهم الاجتماعي وتغييره . وبالتالي تصبح وظيفة الأدب وفق نظرية الانعكاس
هي تحريك الإنسان بكليته : فكرة وشعوره، عقله وأحاسيسه لكي يساهم في تغيير واقعه الاجتماعي
نحو الأفضل .
ملاحظات عامة :
تستند - نظرية الانعكاس إلى الفلسفة الواقعية المادية، وهي تقف ضد النظريات الأدبية السابقة وتعقد
صراعا فكريا وفلسفيا ضد أصحاب فكرة الفن الخالص والجمال الخالص، وترى أن هؤلاء يحطون
من شأن الأدب ودورة الهام، ويقللون من شأن المبدع لأنهم ينظرون إلى عملة على أنه نوع من اللعب
والزخرفة والتشكيل الخالي من أي مضمون اجتماعي .
كما - رفض أعلام نظرية الانعكاس الأدب الذاتي والفردي، وذلك أنهم رفضوا أن تكون العواطف
والانفعالات المحور الرئيسي للأدب، مع أنهم لم ينكروا أثرها واهميتها في تشكيل الأعمال الأدبية .
و يشدد أعلام نظرية الانعكاس على الدلالة الاجتماعية للأدب، وعلى الصلة بين الأدب والمجتمع،
غير أن مدى و شكل العلاقة بين الأدب والمجتمع ظل وما زال مثار نقاش واسع بين أعلام هذه
النظرية وخصومها .
تتمثل وظيفة - الأدب في نظرية الانعكاس في التنوير والتحفيز وفهم الحياة بطريقة أعمق، وتحريك
الإنسان ليساهم في تغيير واقعه الاجتماعي نحو الأفضل ، و لذلك كانت القيمة الأدبية مشروطة
بالوظيفة الأيديولوجية لدى أمثال لينين و بليخانوف
اتهمت نظرية الانعكاس بالتفسير الميكانيكي للظاهرة الادبية و بإهدار طبيعته الفنية لصالح -
مرافعات ذات طابع أيديولوجي دعائي.
نهاية المحاضرة.
أ.ر.قماش
-
المحاضرة التاسعة: نظرية التعبير
1
- ظروف نشأتها:
ظلت نظرية المحاكاة بامتدادها الكلاسيكي مسيطرة على الحركة الأدبية والنقدية الأوروبية حتى
أواسط القرن الثامن عشر تقريبا، وشهد المجتمع الأوروبي في هذه الفترة تغيرات جذرية مست أبنيته
الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، واستطاعت الثورة البرجوازية على الإقطاع أن تنقل البشرية
جميعها تقريبا من عصر إلى عصر؛ فانبثقت قيم ومفاهيم جديدة على كافة الأصعدة والمستويات،
وصارت الكلمة الفصل لفئات اجتماعية جديدة هي فئة البرجوازيين التي استطاعت أن تقوم بنهضة
صناعية و اقتصادية استلزمت بدورها قيام نهضة علمية وفكرية وثقافية واجتماعية. وتطورت
الدراسات في شتى المجالات المذكورة وظهرت فلسفات جديدة وأدب وفن جديد، وأخذ من التقدم
العلمي والصناعي معان جديدة على مفهوم الفردية، وظهرت الطباعة والصحف والكتي والمكتبات
وانتشر التعليم، واتسعت قاعدة القراء وأصبحت الحياة اليومية أكثر تنظيما فأعطت للناس فسحة
وفراغا أمضاه أكثرهم في القراءة والمطالعة، وأدت هذه الفرص إلى آثار إيجابية على الحياة العقلية
والفكرية للإنسان الأوروبي وتغيّرت مشاعره، ونجم عن هذه المستجدات أدب جديد يتناول
موضوعات مختلفة تعبر عن تطلعات الإنسان الأوروبي للعيش في اجواء جديدة أرحب وأكثر متعة
تعبر عن العهد الجديد في ظل أحاسيس وعواطف خصبة . وثار النقاد والشعراء والأدباء على القواعد
والقوانين الكلاسيكية نابذين الزخرفة اللفظية طارحين القوالب الفنية القديمة التي لا تناسب العهد
الجديد، وظهرت تبعا لذلك نظرية جديدة في الأدب تدعى نظرية التعبير والخلق التي عبرت بصدق
عن التغيرات الجديدة في الحياة الأوروبية وانسجمت مع البرجوازية الصاعدة معبرة عن قيمها
وطموحاتها في فترة صعودها تلك .
2
- أسسها الفكرية والفلسفية: تموقعت البرجوازية حول الفرد وآمنت بالفردية؛ فرفعت شعار:
)دعه يعمل دعه يمرّ( على الصعيدين الاقتصادي، ووازاه على الصعيد الأدبي والفكري) دعه يعبر
عن ذاته(، وأصبح للفرد والفردية حجر الزاوية في المجتمع البرجوازي وهي فردية تختلف في
مفهومها فردية المجتمع الإقطاعي الكلاسيكي الذي لم يخل من مفهومه الخاص للفردية حيث قام
بإدراجها تحت لواء الجماعة وذلك: " لأن الفردية والإحساس بها في عصر الإقطاع مندمجة بالعائلة
والحسب والنّسب لهذا يقال بأن المجتمع الاقطاعي مجتمع محافظ يحرص على ضبط العواطف
والانفعالات والاحتكام إلى العقل")عبد المنعم تليمة، ص: 194 (، ولا يمكن للفرد أن ينال الاعتراف أو
يصغي إليه مهما بلغت قوته الجسدية والنفسية ما لم يستمدّها من الملكية والجاه والعائلة والحسب
والنسب. ومن الشائع أن المجتمع الإقطاعي يلغي ذاتية الأفراد، ومن هنا كان الاهتمام في نظرية
المحاكاة منصبّا على فعل الشخصية لا على الشخصية بحد ذاتها، ونفهم من هذا المنطلق إلحاح نظرية
التعبير على بيان الوظيفة الاجتماعية للشعر وإغفال الحديث عن مشاعر الأديب وانفعالاته .
أما المجتمع البرجوازي الجديد فيعطي كامل الحرية للفرد في مزاولة نشاطه من بيع وشراء وتملّك
وسفر وزواج دون قيد أو شرط دونما اعتبار لانتمائه الطبقي والعائلي بعد تلاشي البنية الطبقية
وتضعضع سطوة النبلاء، وأطلق له العنان ليعبّر عن تطلعاته وأفكاره وميوله وعواطفه ومشاعره
التي ظلّت تحت القيود في ظل الإقطاع. فالفرد عالم قائم بذاته ودنيا مستقلة جوهره الأصيل الحرية
والشعور والوجدان والعاطفة الشخصية المستقلة وله حقوقه كما لمجتمعه .
وسادت تلك الفترة الفلسفة)المثالية الذاتية( التي رفضت آلية التعبير وقالت بالديناميكية، ورأت أن
الوجود الأولى للذات والوعي الإنساني، وما العالم الموضوعي إلا نتاج تخلقه هذه الذات لأن وجوده
متوقف على مدرك يدركه هو هذه الذات، وصارت الذات العارفة مصدر الصورة في العالم الخارجي
فقدمت المشاعر والوجدان والعاطفة على العقل والخبرة والتجربة، وتكمن عبقرية الفن في قدرة الذات
على التعبير عن الصورة التي خلقتها للعالم معتمدة على الشعور والوعي العاطفي .
3
3 - دور كانط وهيجل) 1724--1800 () 1770--1831 :)
يعدّ هذان الفيلسوفان المنظرين الأساسيين للبرجوازية والفردية وملهمي النقاد والأدباء الذين
ظهروا في تلك الفترة، وواضعي الأسس الفلسفية لنظرية التعبير، حيث فصل كانط بين المعرفة
العقلية والمعرفة الحسية واعتبر الشعور طريق المعرفة الحقيقية، أما هيغل فرأى أن مصدر الفن هو
الخبرة الخاصة وماهية الفن مظهر حسي للحقيقة ومهمته أرفع صور التعبير البشري عن هذه
الحقيقة، ويضع الإبداع أساسا لفلسفة الفن ويفسره من زاوية المبدع، كما يرى أن الفنان يدرك الحقيقة
وهي مصورة محسوسة ) لا بشكل حسي ولا بشكل عقلي(، ويدرك العنصر الحسي طاقة الخيال
لدى الفئات ويعمل الخيال يدرك الفنان الحقيقة لا كموضوع ولا كفكرة وإنما يدركها في صورة، كذلك
فأولى الزوايا بالدرس هي زاوية الفنان المدرك وأولى المسائل في هذا الدرس أداة الإدراك الخيال .
ومؤدى أفكارهما أن الأدب تعبير عن الذات وأن القلب هو ضوء الحقيقة لا العقل، ووظيفة الأدب
هي إثارة العواطف والانفعالات في نفس القارئ بعد المبدع أما تصوير عوائق ...... مثلا فهي مهمة
الأدباء الكلاسيكيين، واهتمت نظرية التعبير بالأديب الشاعر أكثر من الأسلوب والشكل وصارت
الشخصية أهم من الحبكة أوالأحداث. ورأت النظرية أن الإنسان .... بطبعه وأعلت من قيمة الطبيعة
إلى حدّ التقديس إذ رأى كولريدج أنها أعظم الشعراء .
4
4 - وليم ووردزورت) 1770--1850 م(:
وهو واحد من أكبر النقاد بعد أرسطو وكولريدج وله ديوان مواويل غنائية الذي صدر عام 1798 .
وتنبع قيمة ووردزورت في الشعر من فكرتين: شعر الطبيعة، والشعر البسيط، ورأى أن الطبيعة
ببساطتها أقدر على الوحي من أي شيء آخر تختلط فيه المؤثرات وتتشابك.
5
5 - كولريدج؛ صامويل تايلور كولريدج) 1772--1834 م( :
ويعد هذا الرجل أهم اسم في النقد الأوروبي حتى عصره القرن التاسع عشر، إذ كان شاعرًا وفيلسوفا
وناقدا كبيرا وهو صاحب نظرية الخيال. ورفض كولريدج فلسفة كانت حول الخيال التي تراه وسيلة
لجمع الجزئيات الحسية المتفرقة ورأى أنه: " في الواقع خلق جديد؛ أنه خلق صورة لم توجد وما كان
لها أن توجد بفضل الحواس وحدها أو العقل وحده إنما هو صورة تأتي ساعة تستحيل الحواس
والوجدان والعقل كلا واحدًا في الفنان، بل كل واحدة في الطبيعة، هذا الخيال وحده هو الذي يميز بين
الشعراء العباقرة والشعراء المتشاعرين" . ولم يلغ كولريدج أثر العقل وأثر الإدراك فالعقل هو القوة
الكونية العامة و الضرورية للإقناع وأساس تقوم عليه حقيقة الشعر، فالشعر مونتاج الخيال والحقيقة
الواعية التي تنظم الرؤية الجديدة والعاطفة التي يبثها الموقف المتخيّل: حيث عندما يصنع خيال
الشاعر الذي استطاع أن يجمع الأجزاء ويصهرها ويوحدها فيما بينها في صورة بعبارة مثل: "أصابع
الفجر تمتد"، فإن هذه الصورة الشعرية هي صورة متحركة ومنسجمة ومتآلفة، لكن عناصرها
الاساسية "الأصابع" و "الفجر" متنافرة تماما في واقع الأمر، إذ لا توجد في الحياة الواقعية أية علاقة
بين الأصابع والفجر، لكنها بالشعر تبدو متآلفة وهذا بفضل الخيال الذي يبطل ذلك التنافر خالقا صورة
جديدة .
*ملاحظات حول نظرية التعبير :
لنظرية التعبير آثار هامة على مسار الأدب والنقد وقد أكدت على الحقائق التالية:
قوة العلاقة بين الأدب والسيرة، فالأدب نتاج الفرد الخالق والشاعر والقاص يكتبان عن نفسيهما -
وتجاربهما، وقد أوجد هذا ما يسمى بالنقد البيوغرافي أو البنيوي الذي يرى أن الأدب صورة طبق
الأصل عن المشاعر والخبرات الشخصية لذا ينبغي أن يدرس الأدب وينقد من خلال سيرة الكاتب
ونفسيته .
قوة العلاقة بين الأدب وعلم النفس، إذ ظهرت الكثير من الدراسات التي تربط الأدب بعلم النفس -
محاولة كشف العالم الداخلي للإنسان وقد ربطت بين الأدب والموهبة الفردية واللاشعور الفردي
والجمعي، ويُعدّ كولريدج ممهّدًا للفرودية والوجودية فلسفة وأدبًا .
كانت نظرية التعبير انتصارا للروح الفردية في مقابل روح الجماعة التي كرّستها نظرية المحاكاة، -
وإطلاقا للخيال والعواطف من ربقة العقل الموضوعي المقيد .
نهاية المحاضرة
أ.ر.قماش
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-