النقد العربي الحديث

النقد العربي الحديث

by Abdelfettah Djehiche -
Number of replies: 0

د/عبد الفتاح جحيش

محاضرات النقد الأدبي الحديث

السنة الثانية-السداسي الأول

 

1-ما النقد الأدبي الحديث؟

    بالطبع ليس النقد علما بالمعنى الدقيق لكلمة علم، وإن كان من صميم النقد أن يهتم بالعلوم ويضرب فيها بسهم وافر على قدر قرب هذه العلوم من موضوعات الأدب والفن، ليس النقد علما حتى لو كان له موضوع ثري خاص هو الآداب والفنون، وليس النقد فلسفة مهما متح من مقولاتها وتغذى على أفكارها، ومهما تسلح بمفاهيمها وتبنى بعض مناهجها، ذلك أن النقد نشاط حقيقي مميز لا يهوى مجرد الجمع ولا التنقل المجاني بين العلوم، ولا يعبأ بالتطواف الخارجي بين المعارف الإنسانية المختلفة. فلم لا يكون النقد إذًا ضربا من التأمل الإضافي في النصوص الأدبية والإبداعات الفنية، يمتص مختلف المعارف الإنسانية ليصنع منها أجمل أعلى مستويات التذوق الناضج ويمنحنا أعمق الخبرات الجمالية الرفيعة في مصادرها الأساسية (الأدب والفن).

الأدب والنقد يشتركان في خاصية فريدة؛ فالناقد -في لحظة القراءة- يدخل مع النص في علاقة حميمية فريدة، علاقة تسمح بتبادل الأدوار، وتقبل التنازل الرضي بينهما عن بعض الخصائص في ظل علاقة مزاملة ودية مؤقته، تنقضي بانقضاء فعل القراءة، علاقة يصبح فيها الأدب نقدا بنكهة مميزة، ويصبح فيها النقد أدبا من نوع خاص، ويتحول فيها الأدب إلى نوع من نقد الحياة والأفكار والتاريخ، بينما يصير النقد فيها نتاجا أدبيا يحمل في داخله عناصر الفن والجمال، فالنقد ينتزع الدهشة من الأدب ويعيد نقلها إلى مختلف العلوم والمعارف، فلم لا نقول إن النقد هو استخراج للمدهش والجميل من أعماق الأدب، وتصديره وتسفيره إلى بقية المجالات المعرفية الأخرى لكي يمدها بفتوحاته الحدسية الخاصة بما يزيد في غناها، وبما ييسر فهمها للعالم في اتصاله بالإنسان بشكل أفضل.

     إن نقطة التلاقي بين النقد والأدب هي الفهم والتذوق، وعلى هذا التلاقي تتأسس كل مساعي التنظير للأدب بأشكالها المتنوعة، سواء أكانت مساعي نظرية الأدب، أو مساعي علم النص، أو مساعي الشعريات، أو مساعي النقد الأدبي بمدارسه المختلفة.

ولو رحنا نسأل: ما الأدب؟ لوقعنا في الأزمة نفسها، إنها أزمة التعريف التي نواجهها كلما رمنا تحديد معنى الأدب أو تعريف النقد، ذلك أننا -في مباشرة تعريف كل من الأدب والنقد- لا نستطيع أن نعرفهما على نحو دقيق إلا بالنفي، لأننا ندرك أن التعريف بالنفي يحرر الموضوع ويثريه، بينما التعريف بالإثبات يحد من انطلاقته، ويجعل فترة الاستقرار أطول بما يكفي للإحساس بالملل والركود، وبما يحرم الموضوع ديمومة الحركة وحيوية التغيير اللتين تمثلان أهم خاصيتين في الأدب والنقد، ولئن كانت هذه الحركية في الأدب بالأصالة وتقوم فيه بالذات، فإنها في النقد بالتبعية، ولا تكون فيه إلا بالأدب نفسه.

    هل يمكن أن يكون النقد تاريخا للأدب، أو تاريخا للتذوق مثلا؟ وإذا كان النقد كذلك فماذا يكون الأدب حينها؟

    يبدو من الحري أن يتقاسم الأدب والنقد بعض مشاكلهما الخاصة، كما يتقاسمان شيئا من التأريخ للحياة والفن والفكر والمجتمع، وهذا يعد تشابكا معقدا في بعض وجوهه، ولكن بإمكان النقد بأدواته الخاصة وبطرائقه المتنوعة أن يجعل من الأدب نصا معرفيا ينظم التفكير الجمالي، وينمي خبرة الإنسان الجمالية. يفعل النقد ذلك في لحظة انتصار مؤقت على الأدب، ولا شك أنها لحظة تخدم الأدب والنقد والمعرفة جميعا، لكنها لن تكون المعركة الأخيرة في تاريخ المناكفات بين الأدب والنقد.

2-كيف نحدد مجال النقد الأدبي الحديث؟

     الحديث في اللغة(المنجد في اللغة والأعلام، دار المشرق بيروت، ط43، 2008م، مادة "ح د ث" ص121) من حدث الأمرُ حدوثًا: أي وقعَ، والجمع حوادثٌ، وأحداثُ الدهرِ: مصائبُه، أما الحديثُ فيطلق بمعنيين: الحديثُ بمعنى الإخبار عن الحدث الذي وقع، والحديثُ بمعنى الجديد، وقد ارتبط الحديثُ الذي هو كلام الناس بالأحداث والوقائع الجديدة التي يتحدثون عنها، وفي القرآن الكريم قال تعالى: ((وجعلناهم أحاديث)) المؤمنون/44، أي خبرا يتحدث به الناس في مجالسهم، وسمي كلام الناس حديثا رغم تكراره كل يوم لحاجة الناس إلى الكلام ورغبتهم المتجددة في التحدث بما سمعوا، وفي هذا يقول الشاعر ابن الرومي:

                           ولقد سئمتُ مآربِي     فكأنَّ طيِّبَها خبيثُ

                           إلا الحديثَ فإنّــــــــه     مثلُ اسمه أبدًا حديثُ

    وفي كتاب التعريفات للشريف الجرجاني(ت816هـ): الحدوث عبارة عن وجود الشيء بعد عدمه، ومنه الحدث وهو الأمر الذي وقع حالا أو قريبا، ومنه الحدثان والحداثة وهي سن الشباب، وهي كناية عن أول العمر(التعريفات،ص60).

    والحداثة في الأدب العربي بمعنى الحديث وهو مذهب أدبي يدعو إلى التجديد في  الشعر العربي خصوصا(جمال شحيد مع وليد قصاب: خطاب الحداثة في الأدب، دار الفكر، بيروت-لبنان،ط1، 2005م، ص18)، ظهر أول الأمر مع شعراء الإحياء أمثال اليازجي والبارودي والأمير عبد القادر، ثم استمر مع شوقي وحافظ والرافعي، أما الحداثة في النقد الأدبي العربي الحديث فقد أخذت بعدين أساسيين:

الأول: نقد التراث الديني والفكري كما دعا إليه جمال الدين الأفغاني ومارسه كل من محمد عبده (رسالة التوحيد) وتلميذه رشيد رضا (مجلة المنار) وعلي عبد الرازق(الإسلام وأصول الحكم) وقاسم أمين(تحرير المرأة) وأحمد أمين في سلسلة(فجر الإسلام ــ ضحى الإسلام ـــ ظهر الإسلام).

الثاني: نقد التراث الشعري والأدبي كما دعا إليه أول الأمر طه حسين ومارسه بجرأة وبجدارة في كتابه (في الشعر الجاهلي)، والعقاد والمازني حين دعوا إلى ضرورة التجديد وتجاوز الشعر العربي القديم، ووضعا بعض أسس هذا التجديد في كتابهما (الديوان)، وكتاب (الغربال) الذي وضعه ميخائيل نعيمة وجعله معيارا لنقد الشعر وتمحيصه وسيأتي الحديث عنها مفصلا.

أما مجال النقد الأدبي الحديث فيتحدد بسؤالين:

النوع الأول: كيف عرف نقاد العصر الحديث النقدَ؟ وكيف مارسُوه؟ وما هي شروط النقد والناقد عندهم؟

النوع الثاني: كيف عرَّفوا الأدبَ؟ وكيف ميزوا بينه وبين النقد؟ وما هي المناهجُ التي أرسوها لنقدِ هذا الأدب؟

   وقبل الخوض في معرفة تفاصيل هذه الأسئلة الأساسية، ومعرفة محاولات نقاد هذه المرحلة الإجابة عليها، لا بد لنا من إطلالة تاريخية مختصرة وسريعة على أهم الأصول المعرفية التي تغذى منها هذا النقد واعتمد عليها في بناء صرحه المنهجي للاقتراب من النصوص والأعمال الأدبية، وفي معالجة مشكلات الفن، ومسائل الإبداع والتجديد في الأدب شعرا ونثرا.

الأصول المعرفية للنقد الأدبي الحديث

مفهوم الحداثة في النهضة الأوروبية

كلمة "Modernité" بمعنى الحداثة ظهرت عند بلزاك(1799-1850م) الكاتب والروائي الفرنسي حين أطلقها سنة 1822م بمعنى العصر الحديث، وتعني مانتج عن النهضة الأوروبية التي جسدتها مبادئ الثورة الفرنسية وما جاء بعدها، وعند بودلير الشاعر الفرنسي(1821-1861م) عبرت هذه المفردة عن بؤس الزمن الحاضر الذي كان يعيش فيه بودلير، وعلت دواوينه غمامةُ تشاؤمٍ كثيفة، كما عبرت عند نيتشه عن إحساسٍ مشابهٍ؛ فكانت تحملُ معنى الانحطاطِ والعدميةِ، أما عند بقية الفلاسفة والمفكرين فكانت لها مدلولات إيجابية كثيرة، تمثلت في ثلاث مجالات كبرى حددها الباحث جمال شحيذ كما يأتي:

-      في الدين: القطيعة مع التقاليد الكنسية.

-      في العلم: الدخول في عصر العقل والصناعة والتقنية.

-      وفي الآداب والفنون: كانت مرحلة حبلى بما اصطلح عليه "أزمة المعنى" وهي الأزمة التي تحولت إلى قضية أساسية في كل المذاهب الأدبية والنقدية، تركز على التحرر من القديم، وتنطلق بحماس واندفاع إلى التجريب، والغموض في التعبير، والغرق في التجديد المستمر.(جمال شحيذ ووليد قصاب: خطاب الحداثة في الأدب-الأصول والمرجعية، سلسلة حوارات، دار الفكر، دمشق-سورية،2005م، ص15).

    إن المقولة الأساسية للحداثة هي مركزية العقل وسيادة اللوغوس بما يستوجبه من حرية التفكير والتعبير والممارسة البشرية ضدا على النزعة اللاهوتية التي تحتكر السلطة والحقيقة والتاريخ، هذه هي أسس الحداثة التي تمخضت عن الثورة الفرنسية كثمرة للتنوير، وقد اعتبر يورغن هابرماس أن الحداثة هي قرين التنوير الذي لا يزال العالم يقطف ثماره ويهتدي بأنوار فكره(موسوعة النظريات: راغب، ص269).

    وحتى لا يتوه الطالب في غياهب الحداثة واتجاهاتها المتعددة، فإننا سنكتفي بمفهوم الحداثة بالمعنى الشامل والأساسي الذي مس الفكر العربي وأثار فيه رغبة في النهوض والوقوف على أسباب التخلف وآفاق التحديث، والأمر هنا ينصرف إلى الحداثة بوصفها خطابا تنويريا أداته العقل وغايته تحرير الوعي وتحقيق الإبداع في الفن من خلال تحقيق الحرية والعدالة وتحسين طرق العيش الكريم، هذا هو المفهوم الأساسي للحداثة في النقد الغربي الذي سيمتد في بعض الكتابات النقدية التي كان لأصخابها شيء من الاطلاع على النشاط الثقافي والفكري والفلسفي في الحضارة الغربية الحديثة، كما هو الحال عند طه حسين والعقاد وشكري والمازني.. وسنأتي على تبيان ذلك.

 

من تاريخ الأدب إلى النقد الأدبي الحديث

1-النقد الإحيائي

    هو نوع من الكتابة في النقد والبلاغة وتاريخ الأدب ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر، تتخذ التراث مستندا منهجيا لها في قراءة الأدب القديم شعرا ونثرا، تعبيرا عن الإحساس بالحاجة إلى إحياء الأدب، لاستعادة دوره الثقافي في نشر الوعي وإصلاح المجتمع، من خلال محاولة التغيير في طرائق فهم الأدب استجابة لتغير الذائقة الأدبية العربية، وتمثل هذا التيار كتابات كل من: أحمد ضيف، وأمين الخولي، ومصطفى المراغي، وأحمد الهاشمي، وعلي الجارم في البلاغة، وكتابات: قسطاكي الحمصي، وروحي الخالدي، وجرجي زيدان، ومصطفى صادق الرافعي في تاريخ الأدب، وكتابات: حسين المرصفي، وناصف اليازجي، وعبد الله فكري، وفارس الشدياق، في النقد الأدبي.

2-الموقف من الأدب القديم  

    تؤكد كل الكتابات التي عرضت لتاريخ الأدب العربي على رواج النقد التاريخي في باكورة النقد العربي الحديث، ومن الطبيعي أن يكون الموقف من التراث في طليعة اهتمامات نقاد عصر النهضة الأدبية، وقد بدأت المحاولات الأولى لكتابة تاريخ حقيقي للأدب العربي مع مصطفى صادق الرافعي وجرجي زيدان، واستمرت بشكل متصاعد مع طه حسين وأحمد أمين وأحمد حسن الزيات وشوقي ضيف وحنا الفاخوري وعمر فرّوخ، وقطعت أشواطا بعيدة في النضج والعمق والإحاطة مع محمود شاكر ونجيب البهبيتي. 

    وقبل أن نتعرف على الثورة المنهجية التي أحدثها الدكتور طه حسين في تجديد النظر إلى الأدب القديم وقراءته ينبغي الإشارة إلى الأزمة التي وقع فيها كتاب جرجي زيدان وكتاب الرافعي في التأريخ للأدب العربي أولا، حيث تجلت هذه الأزمة في تأثرهما بالعوامل الخارجية؛ انهزم جرجي زيدان أمام كتابات المستشرقين ومناهجهم في تقسيم مراحل الأدب العربي تقسيما سياسيا، فجاء كتابه مجرد هيكل ينظم مصادر الأدب والثقافة العربية، ويركز على سيرة الكتاب وتراجم الشعراء، أما الرافعي فقد انهزم أمام ضخامة التراث العربي؛ فتشتت جهوده في حقول معرفية وثقافية عديدة أعوزها الضبط المنهجي وغياب رؤية واضحة يستند عليها في قراءة تاريخ الأدب العربي، واقعا بذلك تحت سلطة قراءة التراث بالتراث، ويمكن القول إن الرافعي كان يسعى إلى النأي بالبحث في تاريخ الأدب عن التقسيم المدرسي الذي وقع فيه جرجي زيدان والمستشرقون أحيانا، فجاء منهجه فنيا كما عبر الباحث التونسي عبد الكريم الشاذلي، لكنه لم يسلم من سطوة السياسة على الفن، ورغم الجهد الأرشيفي والتوثيقي لزيدان والرافعي فإن مفهوم الأدب لديهما معا كان مضطربا، إذ لم يكن محددا بالشكل الكافي الذي تحدد به عند طه حسين في كتابه الشهير "في الشعر الجاهلي" ذلك العمل الذي أحدث ثورة منهجية حقيقية في التاريخ للأدب العربي حين أصر صاحبه على تحطيم كل قيود المنهج التقليدي الذي ساد عدة قرون.

     عمد طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" إلى ممارسة النقد الوثائقي قبل أن يمارس تاريخ الأدب، كان عليه أن يبحث عن الشعر الجاهلي الذي تأسس عليه كل الأدب العربي لاحقا، وكان الشك معولا يهدم به معظم يقينيات القدماء، فيؤكد في هذه المحاضرات التي ألقاها على طلبته في الجامعة في جرأة وعزم نادرين أن ((هذا النحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل. وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقا ٱخر سيزورون عنه ازورارا. ولكنني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث))(انظر: مقدمة الكتاب).

    لسان حال طه أننا قبل أن نؤرخ للأدب الجاهلي علينا أن نعثر أولا على هذا الأدب في نشأته الأولى من خلال البحث العلمي الدقيق والممنهج، لأن ما وصلنا من أشعار امريء القيس وطرفة وزهير وعنترة.. لا يمثل حياة العرب، ولا يصور ثقافتهم وما كانوا عليه في شيء، ولما كان الشعر هو عماد الآداب العربية فقد كان من الحري البحث عن أصول هذا الشعر من خلال القرٱن الكريم وتاريخ العرب وقصصهم التي كانوا يتداولونها فيما بينهم.

    بهذا التطلع النقدي اللافت والمتّقد بحماس البدايات ينقلنا طه حسين من قبول الروايات القديمة والتصديق بكل ما كتبه علماء اللغة والرواية في عصر التدوين الأول دون تمحيص أو تدقيق كاف، إلى حالة من الشك العلمي والمنهجي من أجل رد الاعتبار إلى الوثيقة الوحيدة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وهي القرٱن الكريم، ثم صحيح السنة النبوية الشريفة المتواترة، فيدعو إلى فهم الشعر الجاهلي بالقرآن الكريم، وليس فهم القرٱن بالشعر الجاهلي كما فعل علماؤنا الأوائل، وهي دعوة تقلب موضوعة "التراث العربي" كله رأسا على عقب، ومن هنا تأتي قيمة هذا الكتاب الذي أصر طه على إذاعته بين الناس في شجاعة نادرة، وفي محاججة علمية قوية لم يمارسها العلماء العرب منذ أحقاب بعيدة.

3-المنهج النقدي عند طه حسين

    مزج طه حسين في نقده بين المنهج التاريخي والمنهج الاجتماعي، وقد يصح القول أن المنهج التاريخي هو دراسة اجتماعية لحياة النصوص وحيوات أصحابها في الماضي، وأن المنهج الاجتماعي هو تأريخ للنصوص ودراسة حية لحيوات أصحابها في الحاضر، وهذا ما يجعل المنهجين الاجتماعي والتاريخي متداخلين بشكل يصعب الفصل بينهما، فكلما استخدمنا أحدهما استحضرنا الآخر ولا بد، لذلك غلب على نقد طه حسين المنهج التاريخي والاجتماعي مطعمين بالمنهج الفني الذي يفسر جودة النصوص ويكشف مستواها الفني.

    وفي تطبيق المنهج التاريخي على الأدب العربي القديم يضعنا طه حسين منذ البداية أمام مذهبين إذ يقول:

((نحن بين اثنين: إما أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قال القدماء، لا نتناول ذلك من النقد إلا بهذا المقدار اليسير الذي لا يخلو منه كل بحث والذي يتيح لنا أن نقول: أخطأ الأصمعي أو أصاب، ووفق أبو عبيدة أو لم يوفق، واهتدى الكسائي أو ضل الطريق، وإما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث. لقد أنسيت؛ فلست أريد أن أقول البحث، وإنما أريد أن أقول الشك. أريد ألا نقبل شيئا مما قال القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبت، إن لم ينتهيا إلى اليقين فقد ينتهيان إلى الرجحان(..) والنتائج اللازمة لهذا المذهب الذي يذهب المجددون عظيمة جليلة الخطر، فهي إلى الثورة الأدبية أقرب منها إلى شيء آخر. وحسبك أنهم يشكون فيما كان الناس يرونه يقينا، وقد يجحدون ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه))(طه حسين: في الشعر الجاهلي، ص69،66).

  

 

 

 

 

4-مبادئ النقد الأدبي الحديث عند "جماعة الديوان"

     صدح الشاعر عبد الرحمان شكري أحد رواد النقد الحديث بهذا البيت الذي يعد شعارا يطوي مرحلة جديدة فاصلة بين الشعر العربي القديم والشعر العربي الحديث، يقول شكري في البيت الذي وضعه على غلاف ديوانه الأول "ضوء الفجر" سنة 1901م:

ألا يا طائر الفردو          س إن الشعر وجدان

     بهذا الشعار الجامع تغدو وظيفة الشعر الأساسية وغايته الأسمى هي التعبير عن وجدان الشاعر وإحساساته الذاتية المنبعثة من تجربته الخاصة الفريدة، هذه هي النسخة المطابقة تماما للمذهب الرومانسي الذي اندلع في أوربا مع كل من روسو وردزورث وكوليردج وشيلي وبايرن..؛ وسواء انبثقت رؤية شكري من تجربته الخاصة في قراءة الشعر العربي القديم وملاحظاته على نواحيه التقليدية كما في كتابة "دراسات في الشعر العربي"، أو صدرت عن اطلاعاته الواسعة على الشعر الاوروبي والانجليزي منه خاصة، فإن هذا المذهب يعتبر أول دعوة صريحة إلى التجديد، وأول رؤية واضحة تعرف ما تريد، وقد جاءت دعوة شكري ملخصة في مقدمة ديوانه الشعري الرابع "زهر الربيع" ((ليس شعر العاطفة بابا جديدا من أبواب الشعر كما ظن بعضهم، فإنه يشمل كل أبواب الشعر، وبعض الناس يقسم الشعر إلى أبواب منفردة فيقول باب الحكم وباب الغزل وباب الوصف الخ، ولكن النفس إذا فاضت بالشعر أخرجت ما تكنه من الصفات والعواطف المختلفة في القصيدة الواحدة، فإن منزلة أقسام الشعر في النفس كمنزلة المعاني في العقل، فليس لكل معنى منها حجرة في العقل منفردة، بل إنها تتزاوج وتتوالد منه)) (ضمن ديوان عبد الرحمان شكري، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2015، ص207.

    وفي تجاوز الأغراض التقليدية من غزل ومدح وهجاء.. وفي التحرر من أنماطها الراسخة في أذهان المقلدين وأنصار القديم يقول شكري: ((والشاعر لا يسير على رأي واحد لا يتعداه، فإن المذاهب الفلسفية أزياء تأتي وتروح مثل باريس، والنفس أعظم من أزيائها)) (ديوان عبد الرحمان شكري: ص208).

     وقد كان تأثير شكري على العقاد والمازني واضحا فقد اعتبراه معلمهما الأول في هذا المذهب الشعري الجديد، وقد أثمر هذا التأثير مشروعا نقديا أصبح مدرسة مستقلة تحمل اتجاها في تجديد الشعر العربي كان له بالغ التأثير على المشهد الأدبي والنقدي في العصر الحديث، حيث أصدر ثلاثتهم (شكري،العقاد،المازني) أول كتاب نقدي يدعو إلى التجديد في الأدب، ويضع الخطاطة الأساسية لمنظور هذا التجديد في الشعر هو كتاب "الديوان" الذي طبع أول مرة سنة 1921م وأصبح عنوان هذا الكتاب فيما بعد اسما لمرحلة نقدية برمتها، بقدر ما كان اسما لمدرسة نقدية لها أصول وقواعد منهجية خاصة في التعاطي مع الإبداع الأدبي، يقول العقاد عن منهجه الجديد في هذا الكتاب:((إنه إقامة حد بين عهدين لم يبق ما يسوغ اتصالهما والاختلاط بينهما، وأقرب ما نميز به مذهبنا، أنه مذهب إنساني مصري عربي(...) فهو بهذه المثابة أتم نهضة أدبية ظهرت في لغة العرب منذ وجدت، إذ لم يكن أدبنا الموروث في أعم مظاهره إلا عربيا بحتا يدير بصره إلى عصر الجاهلية)) (ناظم عودة: تكوين النظرية، دار الكتاب الجديد، طرابلس-ليبيا209، ط1، 2009م، ص211).

    عبرت جماعة الديوان من خلال هذا النص عن حجم الصراع الداخلي الذي كانت تخوضه الثقافة العربية في النصف الاول من القرن العشرين بين فريق ما زال يتجه ببصره إلى الماضي، وآخر يتجه ببصره لى المستقبل، ويتطلع إلى تأسيس  نقد ثقافي عصري يمتص الحراك الاجتماعي والتاريخي الحاصل في تلك المرحلة، ويمكن إيجاز مبادئ النقد الذي دعت إليه مدرسة الديوان فيما يلي:

-انصب نقد العقاد على أربع قصائد لشوقي وهي: رثاء فريد، رثاء عثمان غالب، استقبال أعضاء حزب الوفد، والنشيد. وقد كان العقاد سباقا إلى أبراز تهافت شعر أحمد شوقي، حيث أظهر عجزه عن مسايرة تطور الذوق الفني عند القارئ العربي الذي لم يعد يبهره التزويق البلاغي والتصنع الأسلوبي، وقد فسر العقاد شهرة شعر شوقي بالتجائه إلى "الاحتيال الأسلوبي" وفق ما عبر عنه الباحث العراقي ناظم عودة، ويقصد به استعارة أساليب القدماء أمثال البحتري والبوصيري والبناء على منوالها من غير تجديد يذكر.

-نبه العقاد إلى ضرورة احترام القراء ومراعاة ذائقتهم الأدبية التي تطورت كثيرا عما عهده شوقي وأتباع شوقي، وسبب ذلك أن كثيرا من القصائد والأشعار الأجنبية الرائدة قد تُرجمت إلى العربية، واطلع عليها القارئ العربي، وأدرك مزية الكلام البليغ، ومعنى الاقتدار الفني والأدبي، إذ لم يعد القارئ العربي الحديث -في نظر العقاد- يحفل بالتشبيهات البلاغية، والتنميق اللفظي، بل تجاوز ذلك باحثا عن المعاني الجديدة، والأفكار المبتكرة، وعن جماليات الأدب الحديثة.

-يرى العقاد ان كثيرا من قراء شوقي كانوا يجاملونه ويمالؤونه لما له من مكانة سياسية، وشهرة تطبق الآفاق، الأمر الذي جعل القراء يجلونه، ويتهيبون نقده، أما شعره فهو أدنى من هذه المكانة بكثير، وهو ليس جديرا بهذا اللقب.

-أما عبد القادر المازني فقد استخدم أسلوبا ساخرا في نقد أشعار كل من مصطفى لطفي المنفلوطي، وحافظ إبراهيم، حتى لقد لاحظ بعض الباحثين أن أسلوب المازني والعقاد كان في معظمه مجرد انتقاد لا يرقى إلى مصاف النقد الأدبي الرزين، وأن تجربتهما النقدية كانت لا تزال في بدايتها، وهي محملة بحماس البدايات، ولذلك فهي تفتقر إلى العمق والنضج، ويطغى عليها الحماسة لللجديد والتجديد.

-لا يختلف المبدأ النقدي عند المازني عن زميله العقاد؛ فقد رأى المازني أن المنفلوطي لم يكن يتكئ على مقدرته الفنية، بل كان يعتمد على شهرته الواسعة في انتشار ما يكتبه، ويعول على سمعته بين القراء.

-لاحظ المازني أن المنفلوطي استند على الأسلوب اللين، وعلى اللغة السهلة التي وصفها المازني بــــ "الأنثوية" التي خدع بها القراء، واعتبر المازني هذا النوع من الأدب من العبث الذي لا طائل تحته، لأنه يفتقر إلى القوة والرجولة والمتانة الفنية.

-بأخذ المازني على المنفلوطي إفراطه العاطفي وطابعه البكائي، ونبرته الحزينة المتشائمة، قال: ((ما لهذا الحانوتي الندّابة وللأدب الذي هو حياة الأمم وروحها وباعث القوة فيها، ونافث الحرارة في عروقها، وحافزها إلى أجلّ المساعي)) .

-يرى المازني أن شعر كل من المنفلوطي وحافظ إبراهيم شعر بعيد عن الواقع العربي المصري، مليء بالتصنع والتكلف؛ تصنع الأساليب وتكلف في اصطناع المادة الأدبية لترضية أذواق قديمة وآسنة.

    بعد أن حدثت خلافات بين الراواد الثلاثة (شكري والعقاد والمازني)، استقل كل واحد منهم بمذهبه النقدي، فانتهج شكري أسلوب النقد الفني والجمالي ودعا إليه متأثرا بالمدرسة الرومنسية الانجليزية (كوليردج-ووردزوورث-شيللي) وحافظ على هدوئه في الكتابة والإبداع، وتجنب الدخول في خصومات ونقاشات، لما تميز به من حساسية مفرطة.

    أما العقاد فقد انتهج المنهج النفسي في معظم دراساته، حيث طبقه ممزوجا بالمنهج التاريخي على بعض الشعراء العرب المشهورين أمثال أبي نواس وابن الرومي والمتنبي، كما وظفه في تحليل شخصيات تاريخية إسلامية كبرى، في سلسة العبقريات المشهورة، وتضم عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم وعبقرية كل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وحلل به شخصية معاوية، وشخصية هتلر.. وقد استمر يكتب في أشهر الصحف والمجلات أشهرها البلاغ والسياسة والهلال، ومن أشهر كتبه: ساعات بين الكتب، دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية، شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، في بيتي، وديوان شعر ضخم.

    أما المازني فقد توقف عن كتابة الشعر بعد أن ترجم مجموعة قصصية من الأدب الإنجليزي، وانصرف إلى كتابة القصة الساخرة، وكان من أشهرها سيرته الذاتية "إبراهيم الكاتب" و"إبراهيم الثاني" ومجموعة قصصية "في الطريق" و"ثلاثة رجال وامرأة"، واستمر يكتب في كتابة المقالات النقدية في جرائد مصر المذكورة، وقد جمع بعضا منها في كتب: "شعر حافظ"، "قبض الريح"، "حصاد الهشيم"،  وله كتاب قيم عن الأدب المصري بعنوان: "أعلام الأدب المعاصر في مصر".