المحاضرة الأولى/ مدخل إلى منهجية البحث اللغوي
تقديم: سوف تكون هذه المحاضرات مقدّمة بشكل سلس وطريف، يخرج شيئا ما عن التقليد القديم الذي تسير على إثره الدروس المختلفة، خصوصا حينما تنتقل من حالتها المعيارية التي قاعدتها التلقين إلى تلكم الفلسفية التي هي مناط التعليم الجامعي النقدي والحر.
يجب أن نتخلى عن طريقة التعليم بالتلقين
الانتقال من المعيارية إلى الفلسفية في التعليم
التفكير العلمي يلهم في التفكير بطرق عقلانية
أقوال هامة جدا
قبل أن نلج باب تلكم الأقوال التي ينبغي أن تكون شعار كل أستاذ و/أو طالب جامعي وجب أن نقول بما قاله أهل اليونان القدامى من ضرورة تعلم ما يسمى بالعلوم السبعة الحرة the seven Liberal arts والتي أساسها ثلاثةٌ يبتدأ بها هي المنطق، والبلاغة، والقواعد أو النحو، سنجد مثل هذا عند ابن فارس أحد أعظم فلاسفة اللغة في العربية، كان فقيها دينيا، ونحويا وصرفيا اعتمد ورجح آراء كثير من الكوفيين خصوصا في جانب الاصطلاح والتسمية، وكان عروضيا شاعرا، ثم معجميا بارزا له مقاييس اللغة، والصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، ثم كان أول فقيه لغوي في العربية، ولو أننا نعتقد إيمانا من تسميته للكتاب أنه يقصد فقه المعجم، وانظر الآن قوله الذي إنما يثبت شيئا من الأمر:
إن لعلم العرب أصلا وفرعا: أما الفرع فمعرفة الأسماء والصفات، كقولنا رجل، وفرس، وطويل وقصير، وهذا الذي يُبتدأ به عند التعلم، وأما الأصل فالقول على موضوع اللغة وأوليتها ومنشئها، ثمّ على رسوم العرب في مخاطبتها، وما لها من الافتنان تحقيقا ومجازا.
والنّاسُ فِي ذَلِكَ رجلانِ: رجلٌ شُغل بالفرع فلا يَعْرِف غيرَه، وآخَرُ جَمع الأمريْنِ معاً، وهذه هي الرُّتبة العليا، لأن بِهَا يُعلم خطابُ القرآن والسُّنة، وعليها يُعول أهلُ النَّظر والفُتيا، وذلك أن طالبَ العلم العُلويُ يكتفي من سماء "الطويل" باسم الطويل، ولا يَضِيرُه أن لا يعرف "الأشَقَّ"٢ و"الأَمقَّ"٣ وإن كَانَ فِي علم ذَلِكَ زيادةُ فَضل. وإنَّما لَمْ يَضِره خفاءُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، لأنَّه لا يَكاد يجدُ منه فِي كتاب الله جل ثناؤه
الناظر بكثير تمعن يلحظ هذا جيدا في التراث اللغوي العربي، خصوصا بعد أن كتب الرازي كتابه في شرح الكلمات الإسلامية، وتخلص العلماء على إثره من ذلك التحرج الذي كانوا يتسمون به، وبدأوا يكتبون في تفسير ألفاظ القرآن الكريم، والحق إن تفسير خطاب القرآن والسنة إنما مشروط بأمور عدّة منها معرفة الأصل والفرع باصطلاح ابن فارس، ومنها تضلّع بالعلوم الدينية أو العلوم المقصودة باصطلاح طه عبد الرحمان، ومنها احترافُ فنون العربية، وعلوم الآلة التي هي النحو، والصرف، والبلاغة، وفقه اللغة، والمعجمية، وقبله كلام العرب من شعر ونثر، سببا في مدارسة ألفاظ القرآن الكريم ومعرفة معانيها والسياق الذي ترد فيه، وإن أقول بظهور تلكم العلوم سببا لحفظ القرآن الكريم من اللحن إنما هو قول متهلهل، لا يستند على حجج تقع في القلب والعقل موقعا حسنا، للسبب أن هناك أسبابا أخرى أكثر وضوحا وأكثر تساوقا مع خصوصيات تلكم البيئة بما تحمله آنذاك ثقافيا، منها ظهرو علوم الآلة لتأويل ما استصعب صرفيا ونحويا، بعد إقامة منهج استقرائي لكثير من الشواهد اللغوية في القبائل العربية (نظرية الاحتجاج) [1]
[1] تمثل نظرية الاحتجاح عاملا فارقا في تاريخ العربية، لسبب مرونتها العلمية، وقوانينها الصارمة ، تمثلت في جمع علماء العربية لشواهدها من أفواه العرب الفصحاء، علىى امتداد ست قبائل لم يمسسها اللحن إلى غاية القرن الثاني في المدن والحواضر، وإلى القرن الرابع هجريا في البوادي.