Aperçu des sections

  • نشأة الأدب المهجري و اتجاهاته

     

    نشأة الأدب المهجري و اتجاهاته

    تمهيد :

    عاشت الشام ظروفا حضارية قاسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ؛ إذ كانت مسرحا لفتن طائـفية خطيرة ، و ضاقت فيها سبل تحصيل الرزق بسبب الإقــــــطاع و فساد الحكم العثماني؛ فالتمس أهلها في مصر ملجأ لكنها و برغم تلك التغيرات التي كانت تشهدها لم تقدم لأهل الشام الرزق الوافر لطلاب المال منهم ، كما لم تتح ما نشده مثقفو ذلك القطر من انطلاق روحي أو حرية ، و لما كانت الحال كذلك يمم كثير من الشباب المسيحي في لبنان و سوريا وجههم شطري الأمريكتين ؛ و كان من أوائل المهاجرين الذين صاروا معروفين فيما بعد ندرة حداد الذي قــصد نــــيويـــــــــــــورك سنة  1897م ،     و رشيد أيوب سنة 1898م ، و لحق بهما نسيب عريضة عام 1905م ، و قد أصدر فــــــــــــي نيويورك مجلة الفنون عام 1913م . و تبع هؤلاء جبران و نعيمة و إيليا أبو ماضي و نعمة الله الحاج و قصد هــــــــــؤلاء و غيرهم الولايات المتحدة الأمريكية ، و لا ينبغي نسيان ذكر عبد المسيح حداد و أمين الريحاني و أحمد زكي أبي شادي الذي تأخرت هجرته .

        و توجه آخرون إلى أمريكا الجنوبية و بخاصة البرازيل و الأرجنتين ...إلخ ، و من أولئك الذين توجهوا صوب الجنوب : آل معلوف ( ميشال ، شفيق ، فوزي ، رياض ) و الشاعر القروي ( رشيد سليم الخوري ) و أخوه الشاعر المدني ( قيصر سليم الخوري ) ، و شكر الله الجر ، و نعمة قازان ،   و إلياس فرحات ، و جورج صيدح ، و إلياس قنصل، و زكي قنصل ، و نظير زيتون ، و حبيب مسعود، و محمود شريف ( مصري) ...إلخ

    أسباب الهجرة :

        بدأت الهجرة في القرن التاسع عشرة و من أهم أسبــابها حسب " محمد عبد المنعم خــــفاجي " طغيان الحكم العثماني ، و سيادة الإقطاع ، و ضيق مساحة البلاد ، و تخلفها ، و افتقارها للموارد ، و بخاصة في لبنان . و قد خلق هذا الجو حالا من الضيق و اليأس دفعت الناس إلي الهجرة راغمين . و يندرج في هذا المعنى قول شكر الله الجر :

    إيه لبنان يشهد الله أنا          ما هجرناك عن قلى و صلابة  

    إنـــما أصبح المقام بـأر                   ض الأرز ذلة و معابة

    كيف لا يهجر الأبي مكانا               ملأ اليأس جوه و رحابه ؟

    و أضاف الدكتور "محمد مصطفى هدارة " الباعث التاريخي القديم مشيرا إلى أن النزوح عن الوطن ليس جديدا على السوريين و اللبنانيين باعتبارهم ورثة الفنيقيين الذين كان دأبهم  الترحال و مزاولة أعمال التجارة عبر مرافئ المتوسط و غيره من البحار .

        و كان للإرساليات التبشيرية و المدارس التي أنشأها الأمريكيون في سوريا و لبنان دور كبير في توثيق الصلة بين أهالي سوريا و إقليمها المتوثب لبنان و أمريكا التي صارت قبلة العديد من طلاب العدل و الحرية و المساواة ، و هي التي وفرت على أرضها جوا من التسامح الديني في مقابل ما رأوه تعصبا دينيا خيم على العثمانيين .

        و لعبت سهولة الهجرة إلى العالم الجديد دورا مساعدا ، فلم تكن هناك قيود على الهجرة ، و لا على امتهان أية مهنة . بل كانت فرص الثراء و الغنى كثيرة؛ فأراضي البلاد فسيحة و هي قليلة السكان،    و شتى مرافق الصناعة و الزراعة و التجارة تطلب العمال و بإلحاح . و هناك من حملته الأقدار       و الصدف إلى هنالك كـرياض المعلوف الذي كان في أمريكا عند نشوب الحرب العالمية الثانية ، و لقي هناك من بقي من أعضاء الرابطة القلمية في نيويورك كإيليا و كاتسفليس و رشيد أيوب ، ثم ما لبث حتى توجه إلى البرازيل لزيارة إخوته و باقي أقاربه . و ربما كانت هناك دوافع أخرى غير التي ذكرنا قد تكون خاصة . 

     

     

    ظروف الهجرة :

         بدأت الهجرة العربية إلى أمريكا بشكل فردي في النصف الثاني من القرن التاسع عشرة كما كان مع أنطون البشعلاني اللبناني الذي ذهب إلى أمريكا الشمالية ، و أقام في نيويورك عام 1954م ثم تبعته أفواج من المهاجرين من سوريا و لبنان و فلسطين ، و كان بعضهم من الأدباء ؛ فأخذوا يعبرون عن مشاعرهم بالشعر أو النثر . و أقدم أديب هاجر إلى العالم الجديد هو ميخائيل رستم ( والد الشاعر أسعد رستم و هو من أعضاء الرابطة القلمية ) ، ثم هاجر بعده الدكتور لويس صابنجي الذي نظم قصيدة في وصف السنترال بارك في نيويورك عام 1872م . و قد تكاثر المهاجرون بعد الثورة العرابية في مصر أين ضيق البريطانيون على الشوام هناك.

        و من أوائل الشعراء الذين هاجروا إلى أمريكا الشاعر ندرة حداد الذي بلغ نيويورك عام 1897م ،  و تبعه رشيد أيوب بعد عام أي 1898م . وهاجر بعدهما نسيب عريضة عام 1905م ، و توالت الهجرات فأخذ الأدب المهجري يظهر . و في تلك الديار النائية ترعرع أمثال : أمين الريحاني و جبران خليل جبران و عبد المسيح حداد و ميخائيل نعيمة ، و هؤلاء هم الرؤوس لما صدر عنهم من نشاط في التأليف و الصحافة و الشعر.

        و أما فيما يتعلق بهجرة أمريكا الجنوبية ، فقد تأخرت قليلا عن تلك التي كانت إلى وجهة الشمال .   و كانت البرازيل المقصد الأول لأسباب تاريخية و اقتصادية ، و من الذين اختاروا تلك البلاد : قيصر سليم الخوري 1891م ، و حبيب مسعود عام 1913م( الذي شغل رئاسة تحرير مجلة العصبة فيما بعد) ، و ميشال معلوف ، و شكر الله الجر 1919م، و أخوه عقل الله الجر،و نصر سمعان 1920م، و توفيق ضعون 1914م  ، و محمود الشريف . و من أدباء المهجر الآخرين : رياض معلوف       و شفيق معلوف و فوزي معلوف و الشاعر القروي و نعمة قازان و إلياس فرحات و جورج صيدح      و إلياس قنصل و زكي قنصل و نظير زيتون و أمين مشرق و محبوب الخيري الشرتوني ، و قد تفرق هؤلاء و غيرهم كثير بين البرازيل و الأرجنتين و المكسيك و كولومبيا و الإكوادور و غيرها من تلك الأقطار ، و كتبوا بالعربية و بلغات تلك الأقطار .

        و كانت ظروف الهجرة قاسية صعبة لأن العثمانيين كانوا يمنعونها و لكن السفر إلى أوروبا كان ذريعة الكثيرين ، و ساهمت شبكات سماسرة الهجرة و التهريب النشطة في ذلك .و قد لاقى السواد الأعظم ممن هاجروا الأمرين في أمريكا ، و عاش بينهم أدباء كما يعيشون ؛ يشقون في المزارع        و المصانع و يكدون في التجارة و يكدحون في جمع الرزق، و يعملون ليل نهار في المدن و الأرياف . و كثيرا ما كانوا يلاقون الحظ العاثر كشأن إلياس فرحات الذي يقول في قصيدته  ‹‹ حياة مشقات ›› يندب حظه و يصور شقاءه :

    أراقب في الظلماء ما الليل يحجب           و أقرأ في الأسحار ما الله يكتب

    و أستعرض الأيام يومي الذي مضى                 دليل على يومي الذي أترقب

    فلا تسألوا عني و حظي فإننا          لأمثال ما في الشرق و الغرب مضرب

    أغرب خلف الرزق و هو مشرق         و أقسم لو شرقت كان يغرب

    لئن غردت للشاعرين بلابل               فإن غراب الشؤم حولي ينعب

    و عمل كثير منهم بائعين جوالين كالشاعر القروي و إلياس فرحات هذا الذي أنف شعره ، و يقول إيليا أبو ماضي يصور آلام الهجرة :

    نحن في الأرض تائهون كأنا     قوم موسى في ليلة ليلاء

    ضعفاء محقرون كأنا            من ظلام و الناس من لألاء

    لقد كانت المعاناة حليف البعض، لكن الكفاح قاد الكثيرين إلى النجاح ، فخلدوا ذلك من خلال أشعارهم، و قد كانوا في سائر أحوالهم مثابرين مصرين على التشبث بتراثهم العربي الشرقي.

    كيفية نشوء الأدب المهجري :

        نقل المهاجرون من العالم العربي الآداب العربية إلى المهاجر الأمريكية في الشمال و الجنوب ؛ إذ أخذوا معهم لغتهم و ثقافتهم و تراثهم و آدابهم . هكذا و بعد أن استراحوا من أعباء السفر ، و مشقات الحياة الجديدة ، و استقروا  بعض الاستقرار ، بدؤوا يقارفون الأدب على سابق عهدهم فكتبوا النثر     و نظموا الشعر. و طفقت تظهر بوادر الحياة الأدبية العربية بين أوساط أولئك المهاجرين في مطلع القرن العشرين ، و ساعد على ظهورها حاجة المغترب إلى التنفيس و التعبير عن الهموم و لواعج الشوق إلى ربوع الشرق ، و إحساسه بالحنين الجارف إلى وطنه و مسارح ذكرياته ، و موطن أهله     و مرتع أحبابه و أترابه ؛ و الحنين إلى الوطن يثير الموهبة و يغذي المشاعر و يذكي العواطف فتستحيل تيارا جارفا .

        و قد نشطت الأدب المهجري عوامل كثيرة منها: الجماعات الأدبية و النوادي و الندوات و الصحف و المطابع.

    مصادر ثقافة أدباء المهجر :   

         تأثر الأدب المهجري بمؤثرات كثيرة، فأكسبته طابعه الخاص، و شخصيته المميزة في رحاب الأدب العربي الحديث كثير النزعات و الاتجاهات و المدارس. و تعد حركة التجديد في الأدب العربي الحديث أولى المؤثرات التي عمات فيه ، حيث كان هناك صدى قوي لمحولات أمثال أحمد شوقي و المنفلوطي برغم تواضعها ، لكن الصدى الأقوى كان للمدارس الرومانسية كجماعة الديوان و جماعة أبولو ، و تبدو رومانسية المهجريين مستوحاة في بدايتها من المدارس الشعرية ذات الروح الرومانسي في الشرق العربي انطلاقا من الرائد خليل مطران مرورا بـجماعة الديوان وصولا إلى أحمد زكي أبي شادي الذي انتهى به المطاف إلى الهجرة بدوره .

        لكن البيئة المستقبلة كان لها أيما أثر ، إذ سرعان ما استلهموها ، و اصطبغت حياتهم و ثقافتهم   و فكرهم بطابعها الجديد ، حيث قرؤوا للأدباء الغربيين و الأمريكيين بلغاتهم الأصلية فصار شعرهم    و نثرهم نهرا ترفده وديان الشرق و الغرب . بل صار بعضهم يكتب بلغتين كما كان الأمر عند جبران. و لقد أمعنوا النظر في الثقافة الغربية على ضفتي الأطلسي ، فنهلوا من الأدب الأمريكي أيضا و سايروا روح الاستقلال التي سرت فيه أواخر القرن التاسع عشرة .

       لقد كان الأدب المهجري تجربة اتصال للعقل العربي بالحضارة الأمريكية اتسمت بالعمق و القوة     و الحيوية آخذة موضوعاتها من الغرب و الشرق و كذلك روحانيتها و فلسفتها منهما معا على السواء . و صار بذلك مزيجا من الواقعية و الرومانسية والرمزية و السريالية و غيرها ؛ و لم يخل أدب المهجر الجنوبي من مؤثرات الثقافة الآيبيرية  ( الإسبانية و البرتغالية ).

    اتجاهات الأدب المهجري :

        تميز الأدب المهجري في عمومه بروح الانفتاح على الغرب و الشرق  و مرونته من جهة المضامين و الأشكال ،  حيث برزت نزعته إلى التجديد بشكل واضح . لكن درجة و نوع ذلك التجديد مختلفة ؛ إذ كان شعراء و كتاب الشمال أجرأ في الانطلاق بلا قيود بينما مال كتاب و شعراء الجنوب إلى رعاية الديباجة العربية القديمة و حفظوا الجزالة الشعرية المتوارثة و شددوا على قواعد اللغة         و العروض .

        و اتسم أدب الشماليين و بخاصة شعرهم بنزعته الفلسفية كما لدى جبران و نعيمة و الريحاني      و نسيب و حتى قصصهم شابه ذلك النزوع الفلسفي . أما الجنوبيون فغلب على إنتاجهم الشعر الوجداني و القومي و الميل إلى التوظيف الأسطوري. لكن الاتجاه الوجداني كان أمرا مشتركا بين الشمال و الجنوب و قد دان الكل للملهمين جبران و أمين الريحاني .

    نهاية المحاضرة الأولى 


  • وسائط الأدب المهجري

     

    وسائط الأدب المهجري

       شكل الأدب المهجري العربي الحديث رصيدا ثقافيا مهما و متنوعا ، و يعد رافدا أساسيا للأدب العربي الحديث ، حيث أماط اللثام عن طاقات إبداعية خلاقة كثيرا ما أغنت النتاج الأدبي الذي جادت به قرائح العرب في القرن العشرين ، و صار بعض المهجريين روادا لا يقلون شأنا عن رواد أدبنا في مصر و العراق و الشام و بلاد المغرب؛ فأمثال جبران و إيليا أبي ماضي و نعيمة و أمين الريحاني و الشاعر القروي يتفوقون على نظرائهم في بلاد العرب بما أظهروه من روح إنسانية عالمية و عواطف قومية حارة و عمق فلسفي رصين .

       و لا ينحصر منجز أولئك الأدباء الضاربين في الأرض في دواوين أو قصص أو مقالات نشرت هنا و هناك ، فهو مبثوث في مجموعات أدبية كالرابطة القلمية و العصبة الأندلسية و رابطة منيرفا ...إلخ ، أو هو حصيلة نشاطات أطرتها نواد أدبية للجاليات السورية و اللبنانية و الفلسطينية في عواصم أمريكا الشمالية و الجنوبية كنيويورك         و بوينس إيرس  و ساوباولو ...و غيرها ، أو قطاف ندوات أدبية عقدت في تلك الربوع النائية بين الفينة و الأخرى . و كان للصحف و المجلات دور كبير في إخراج تلك النصوص القيمة التي أبدعوها إلى الوجود ، و نقلها للقراء العرب في قارات العالم القديم إبان تلك الأيام الخوالي .

    1- المجموعات الأدبية :

       بدأ المهاجرون العرب في المهجر  الأمريكي الشمالي و الجنوبي بتأسيس مدارس عربية لتعليم أولادهم ثم كونوا بعد ذلك جمعيات دينية و خيرية تقدم الرعاية و المساعدة للمحتاجين من المهاجرين . و بعدها أنشِأوا جمعيات ثقافية و أدبية كانت لبعضها شهرة كبيرة في الوطن العربي لما تركته من آثار أدبية ذات قيمة و وزن . و من أبرز هذه المجموعات :

    - الرابطة القلمية .

    - العصبة الأندلسية .

    - رابطة مينيرفا .

    - الرابطة الأدبية .

    - جامعة القلم بساوباولو.  

    الرابطة القلمية :

       في ليلة العشرين من نيسان ( أفريل ) عام 1920 ولدت الرابطة القلمية فكرة في مجلس ضم ثلة من الشبان اللبنانيين و السوريين الذين حركتهم غيرتهم على الأدب العربي  و حاله ، و حمل عبء الدعوة إلى تأسيسها الأديب عبد المسيح حداد ( 1890- 1963) صاحب جريدة السائح المشهورة التي احتضنت دارها الاجتماعات . و قد تولى جبران خليل جبران رياستها يعاونه في إدارتها ميخائيل نعيمة مستشارا ، و وليم كاتسفليس خازنا ، و عمل معهم سبعة آخرون يحملون اسم العمال هم : إيليا أبو ماضي ، ونسيب عريضة ، و عبد المسيح حداد ، و رشيد أيوب ، وندرة حداد ، و وديع باحوط ، و إلياس عطا الله .

       و سرعان ما انضم إلى هؤلاء أدباء آخرون من  نيويورك و ما حولها أهمهم : نعمة الله الحاج ، و أسعد رستم ،   و جميل بطرس الحلوة ينشطون مع الجماعة المؤسسة بشعرهم ، يضاف إليهم كتاب و أدباء من أمثال : رزق الله حسون ، و فيكتوريا طنوس ، و نجلا أبو اللمع معلوف ، و حبيب مسعود ، و فيليب العقل ، و حبيب عيسى ،         و إبراهيم داغر. لكن بعض الأدباء العرب من ذوي الشهرة و الصيت لم يلتحقوا بالرابطة أبرزهم : مسعود سماحة ،  و أمين الريحاني الذي كان كثير التنقل فغاب حين تأسيسها عن نيويورك ، ثم غنه لم يكن على وفاق مع جبران .

       و كان أعضاء الرابطة العشرة عصبة صغيرة – كما قال نعيمة – تفاوتت قواها ، و لكن توحدت نزعاتها          و مراميها ، و لم يكونوا متكافئين في المواهب و الإنتاج . و لكنهم كانوا متقاربين في الميول الأدبية ، و الذوق الفني، و كانت جريدة السائح التي  يملكها عبد المسيح حداد دوحة هؤلاء الشعراء ، فمدت أغصانها فدنت فتدلت بالغة الديار العربية في الشرق الذي أدهشته ثمارها اليانعة ، و قرائح شعرائها و كتابها الملهمين . و دأبت تلك المجلة الغراء تعرض غلال أقلامهم ، و في صدر كل عام كانت تخرج عددا ممتازا يطلع في سماء الأدب العربي شمسا مشرقة فيشكل حدثا خطيرا تكتب عنه الصحف فصولا ، و تنقل عنه أشياء كثيرة تبهج القراء .

       و في عام 1921م ظهرت مجموعة الرابطة القلمية تحمل عددا وافرا من المقالات و القصائد بأقلام أعضاء الرابطة ما عدا إلياس عطا الله ن و كانت المجموعة الوحيدة التي صدرت في نيويورك لقلة الإمكانيات . و ساهم فيها جبران بسبعة عشر موضوعا من النثر و الشعر ، و ميخائيل نعيمة بثمانية موضوعات ، و رشيد أيوب بثماني قصائد و ندرة حداد بأربع ، و عبد المسيح حداد بقصتين قصيرتين ، و كتب وليم كاتسفليس ثلاث مقالات ، و وديع باحوط مقالا واحدا بعنوان <البرغشة > ، و قدم إيليا أبو ماضي خمس قصائد و نسيب عريضة سبعة موضوعات أقصوصتان و خمس قصائد .

       و ظلت الرابطة القلمية نشطة بأعضائها العشرة نحو إحدى عشرة سنة من  1920 م إلى 1931م حيث ألم الموت بجبران ، و تلاه الآخرون ، و عاد نعيم إلى لبنان عام 1932م . و يعد جبران و نعيمة و إيليا أقوى أدباء هذه الرابطة يضاف إليهم رشيد أيوب و نسيب عريضة ح لما ميز أعمالهم الشعرية و النثرية من إبداع و خلق و تجديد أدى إلى انتشار أدبهم في العالم العربي قاطبة ، و حتى في العالم بأسره.

       و كتب دستور الرابطة فقدم له ميخائيل نعيمة ،  و أعلن فيه عن مبادئها التي من أهمها التجديد في الشعر العربي دون إحداث القطيعة مع التراث . و يعد كتابه الغربال 1923 الظهير النقدي لها ، و يقول نعيمة مبينا رؤية الجماعة : << ليس كل ما سطر بمداد على قرطاس أدبا ، و لا كل من حرر مقالا أو نظم قصيدة موزونة بالأديب ، فالأدب الذي نعتبره هو الأدب الذي يستمد غذاءه من تربة الحياة و نورها و هوائها ، و الأديب الذي نكرمه هو الأديب الذي خص برقة الحس و دقة الفكر و بعد النظر في تموجات الحياة و تقلباتها ، و بمقدرة البيان عما تحدثه الحياة في نفسه من التأثير >> . و غاية الرابطة كما قال :  ‹‹ بث روح نشيطة في جسم الأدب العربي و الخروج بلأدبنا من دور الجمود و التقليد ، إلى دور الابتكار في جميل الأساليب و المعاني ››. و يضيف :  ‹‹ و ليس قصد التجديد قطع الصلة بالأقدمين الذين من بينهم من ستبقى آثارهم مصدر إلهام الكثيرين غدا و بعد غد   ›› . غير أنه يرى في تقليدهم موتا لأدبنا و بالتالي وجوب الانصراف عنهم محافظة على كياننا و ذلك إلى التعبير عن حاجات يومنا و مطالب غدنا لاختلاف الحاجات بين الأمس و اليوم – من مقدمة دستور الرابطة .

       و وجه جبران أدباء المهجر عموما و الرابطة القلمية خصوصا نحو الرومانسية المجنحة ، و خلق شعر المناجاة الذي سماه محمد مندور السعر المهموس ، و ثار على القواعد و التقاليد اللغوية في مقال له تحت عنوان : ( لكم لغتكم   و لي لغتي ) ومما قال فيه :  << ... لكم منها القواميس و المعجمات و المطولات و لي منها ما غربلته الأذن ،      و حفظته الذاكرة من كلام مألوف مأنوس تتداوله ألسنة الناس في أفراحهم و أحزانهم >>.

       و قد استرعت هذه الرابطة انتباه الكثير من الدارسين العرب فألفوا حول أدبائها و شعرائها كتبا كثيرة فيها الغعجاب بأفكارهم و فيها الرفض لما أبدوه من شطط فكري خاصة . يقول جورج صيدح في كتابه ( أدبنا و أدباؤنا في المهاجر الأمريكية ) منوها بالرابطة :  << كانت الرابطة القلمية ثورة فكرية و بيانية مذهبها أقرب إلى الرومانسية شكلا ،   و لكن التصوف و عمق التجربة و طول التأمل رفع أدبها إلى مستوى عال يطل منه على مستويات العلم و الفلسفة العالمية >> . و يضيف بنبرة إعجاب جلي : << في أدب الرابطيين على العموم معان حنون لم تلد المحبة الإنسانية أرقى منها >>.

       و تمثل هذه الجماعة نزعات التجديد الحر في الأدب العربي الحديث ،  و ثم لاقت نقدا شديدا من قبل الكثيرين حتى من قبل زملاء  في المهجر الجنوبي كإلياس فرحات الذي يقول :

                إني لأعجـــــب من آداب رابطــــة    قد أوجدت في نظام الشعر تشويشا

                شنت على الأدب الميمون غارتها     فأمعـنت فيه تشـويشا و تخـديـــــشا

                أشــعارها عـلقم مع أنها شربــــت    من ماء حنين و العاصي و قاديــشا

    و يبدو هذا الكلام قاسيا و متحاملا في حق الرابطة و شعرائها ، و رحب العقاد من جهته بأفكار نعيمة في مقدمة كتاب الغربال التي كتبها بطلب من صاحبه لكنه أبدى انزعاجه من موقف نعيمة من اللغة فعبر عنه بلباقة .

       و برغم هذا و ذاك فقد تركت الرابطة القلمية صفحتها مشرقة ، و أورثتنا تراثا ضخما كان منه الجداول لإيليا أبي ماضي و الغربال لميخائيل نعيمة و العواصف لجبران خليل جبرا ن  و أوراق الخريف لندرة حداد و أغاني الدرويش لرشيد أيوب ، و حكايات المهجر لعبد المسيح حداد و مقالات نفيسة و روائع كثيرة ، زينت صفحات مجلات و جرائد كالفنون و السائح و السمير.

    العصبة الأندلسية :

       في ليلة الخامس من شهر كانون الثاني ( جانفي ) من سنة 1932م ولدت العصبة الأندلسية بمدينة ساوباولو بالبرازيل ، و تولى رئاستها كل من ميشال معلوف و الشاعر القروي ( رشيد سليم الخوري ) و شفيق معلوف تباعا حتى سنة 1953م ، و تشكلت بداية من : ميشال المعلوف رئيسا ، و داود شكور نائبا للرئيس ، و نظير زيتون أمينا للسر ، و يوسف البعيني أمينا للصندوق ، و جورج حسون معلوف خطيبا . و من : نصر سمعان و حسني غراب    و يوسف غانم و حبيب مسعود و إسكندر كرباج و شكر الله الجر و أنطون سليم سعد أعضاء . ثم ما لبث أن انضم إليهم : شفيق المعلوف و الشاعر القروي و أخوه الشاعر  المدني ( قيصر سليم الخوري ) و نعمة قازان و إلياس فرحات و عقل الجر و توفيق ضعون و رياض المعلوف .

       و فسر حبيب مسعود معنى تسمية العصبة فقال : ‹‹ إنه التيمن بالتراث الغالي الذي تركه العرب في الأندلس ››

    و حدد الأعضاء مبادئ العصبة في تعزيز الأدب العربي ، و تآخي الأدباء ، و رفع مستوى العقلية العربية ،          و مكافحة التعصب  ن و نقض التقاليد التي تتنافى و روح العصر . و لم يحفظوا لها نهجا معلوما في الأدب لإجماعهم على النضال في سبيله من حيث هو فن و جمال دون نظر إلى إطار أو مصدر ، و قد ترسموا أساليب الفصحى ،     و تقدوا بأحكامها ما و جدوا إلى ذلك سبيلا كما قال شفيق المعلوف في إحدى المناسبات .

       و أصدرت العصبة "مجلة العصبة" بعد مدة من تأسيسها ( الراجح سنة 1935) ، و أسندت رئاسة تحريرها إلى الأديب حبيب مسعود ، و أصدرت عددا كل شهر لمدة قاربت العشرين عاما ، و تلقت مساهمات من أمريكا و من خارج الأمريكيتين و منها مساهمات أحمد زكي أبي شادي و فدوى طوقان و نازك الملائكة و عبد القادر رشيد الناصري . و انتهى أمر العصبة و انفرط عقدها بتوقف صدور المجلة سنة 1953م . و كثيرا ما نشبت بين شعراء العصبة و شعراء الرابطة المنافرات الشعرية بسبب ميل شعراء العصبة إلى المحافظة على الأساليب و القواعد القديمة ، و تمرد شعراء الرابطة .

       و أشهر المؤلفات التي صدرت لأعضاء العصبة هي  :  عبقر ملحمة شعرية و قد ترجمت إلى لغات كثيرة ، و نداء المجاديف و لكل زهرة عبير و عيناك مهرجان و سنابل راعوث لشفيق معلوف ، و ديوان القروي للشاعر القروي    و يضم ( الرشيديات و القرويات و الأعاصير و .... ) و ديوان فرحات في ثلاثة أجزاء و أحلام الراعي و رباعيات فرحات لإلياس فرحات و معلقة الأرز و المحراث لنعمة قازان ، و خيالات و زورق الغياب لرياض معلوف  ،       و جبران حيا و ميتا و ما أجملك يا لبنان لحبيب مسعود و ذكرى الهجرة و سيرة حياتي لتوفيق ضعون     و صور   و ذكريات لسلمى صايغ و أقاصيص لجورج حسون معلوف و أعمال أخرى كثيرة .

      

    رابطة منيرفا :

       و هي مجموعة أدبية لم تمكث غير برهة من الزمن ، أسسها الشاعر المصري الكبير الدكتور أحمد زكي أبو شادي عام 1948م ،  و كان رئيسها و كان نائبه الشاعر المهجري الكبير عبد المسيح حداد ، و من الذين نشطوا فيها صفية أبو شادي ( كريمة أبي شادي ) و نعمة الله الحاج ، و مركزها نيويورك ، و دأبت على عقد لقاءات شهرية تعنى بالأدب الأصيل شعرا و نثرا ، و انفضت الرابطة بوفاة أبي شادي ، و لم تترك أثرا كبيرا في الأدب العربي .

    الرابطة الأدبية:

       و هي رابطة أنشئت في بوينس إيرس عاصمة بلاد الأرجنتين عام 1949م برئاسة جورج صيدح و عضوية يوسف الصارمي و عبد اللطيف الخشن و زكي قنصل ، و انتهى أمرها بعد عامين من الوجود إثر عودة جورج صيدح إلى لبنان .

    روابط  أدبية  أخرى:

       و أهمها جامعة القلم بالبرازيل  و قد قامت على أنقاض العصبة الأندلسية سنة 1964م و من قادتها داود جرجس الخوري و فيليب لطف الله و من ابرز أعضائها مريانا دعبول صاحبة مجلة المراحل التي كانت تصدر قبل تأسيس هذه الرابطة . و ندوة الأدب العربي   و قامت على أنقاض الرابطة الأدبية السالفة الذكر . وهناك روابط و جمعيات كثيرة اقل أهمية اشار إليها عيسى الناعوري و محمد عبد المنعم خفاجي و آخرون ممن درسوا الأدب المهجري .

     2- النوادي الأدبية :

        أنشأ المثقفون في المهجر الأمريكي الشمالي و الجنوبي العديد من النوادي الثقافية والأدبية ، و كان لها دور في تنشيط الحركة الأدبية و الثقافية ،و رعاية حركية الإبداع باللسان العربي في تلك الربوع النائية ، و في توجيه المواهب الفذة لخدمة الأدب العربي هناك و في الوطن الكبير .

       و قد توزعت تلك النوادي في كبريات العواصم و الحواضر الأمريكية شمالا و جنوبا ، يقول الشاعر القروي في هذا الصدد واصفا الحياة الأدبية للجالية العربية في ساوباولو : ‹‹ كانت هناك جالية لها اندية و جمعيات و صحافة ، و كانت تقيم الحفلات بكثرة ، في سبيل الغراض الاجتماعية و الوطنية ، و كانوا يدعونني لأقول شيئا من الشعر ... و كنت  اراقب هذه الأحداث بنفس ثائرة و أصورها بشعري ، و كان ذلك أول عهدي بالجهاد الأدبي في سان باولو ...›› و نذكر من تلك النوادي ما يلي :

    1 – نادي الرابطة الوطنية السورية ( ساوباولو ) .

    2- نادي جمعية الشبيبة العربية الفلسطينية  ( ساوباولو ) .

    3 – النادي الحمصي عام 1920 ( ساوباولو ) .

    4 – النادي الرياضي السوري ( ساوباولو ) .

    5- لنادي الحلبي و قد دشنه فؤاد الشايب سنة 1958.

    6 – جامع ساوباولو .

    7 – النادي العربي في بوينس أيرس.

    3- الندوات الأدبية العربية في المهجر :

    لطالما عقد المهجريون ندوات أدبية في كل ربوع أمريكا ينشدون فيها روائع الشعر العربي ، و يستمعون إلى الخطب الحماسية الرنانة ، و كثيرا ما كانت تعقد في مقرات الصحف و المجلات العربية و النوادي الأهلية و الجمعيات       و الجوامع و غيرها ، و كانت تلك النشاطات بمثابة لقاءات أدبية رفيعة المستوى تحفظ خيوط الوصل بين المهاجرين و لغتهم الأم ، و تحميها من خطر الإندراس و التلاشي ، و قد تشرب فيها الشباب حب العربية حينما كانوا يتابعون مداخلات فطاحل الشعراء و الخطباء و الأدباء اللامعين  الموهوبين . و من أشهر الندوات : ندوة رواق المعري  التي أقامها الشاعر قيصر المعلوف سنة 1900م بساوباولو ، و ضمت معه : جورج عساف و  خليل كسيب و نعوم لبكي  و أنيس يواكيم الراسي ...إلخ . و استمر نشاط هذه الندوة حتى أوائل الحرب العالمية الأولى . و هي أشبه ما تكون بناد أدبي . و كثيرا ما احتفت تلك الندوات بكبار شعراء العربية كالمتنبي و المعري و شوقي ، و كانت تعقد في الأعياد و المناسبات غالبا.

    4- الصحافة و الأدب المهجري  :

       أسس بعض المهاجرين الأوائل صحفا عربية في ربوع العالم الجديد اقتصرت على بعض الصفحات في ثنايا جريدة أو صحيفة تصدر بالإنجليزية أو البرتغالية أو الإسبانية ،  و صادف أصحابها صعوبات كثيرة كقلة الإمكانات المالية و قلة عدد القراء و تفرقهم و القوانين المقيدة في بعض الأحيان ؛ حيث منعت حكومة البرازيل مثلا كل المنشورات الصادرة بلغات أجنبية على أراضيها أثناء الحرب العالمية الثانية . و مع ما تقدم فقد كثرت تلك الصحف و تم نقلها حتى إلى لبنان و مصر و غيرهما لإرضاء شغف القراء العرب بما يكتبه أبناء المهجر . و كانت من بين تلك الصحف صحف اهتمت بالأدب كثيرا ، أو تخصصت فيه ؛ و من أوائل تلك الصحف و المجلات : كوكب أمريكا عام 1892م – جريدة الهدى لنعوم مكرزل عام 1898م ( بنيويورك ) – و مرآة الغرب لموسى ذياب عام 1899م و كان من كتابها وليم كاتسفليس و جبران ... إلخ .

       و مهما يقل فإن ثلاثا من الصحف كان لها أبعد الأثر في تنشيط و رعاية الحركة الأدبية في الولايات المتحدة الأمريكية ، و هي جريدة السائح لعبد المسيح حداد و أنشئت عام 1913م بنيويورك ، و كانت تستكتب كبار لأدباء المهجر كجبران و الريحاني و رشيد أيوب و ندرة حداد ، و كانت نصف أسبوعية ، و هي التي احتضنت في مقرها الرابطة القلمية أخطر جماعة أدبية مهجرية بلا منازع . وتمت تصفيتها سنة 1957م. و هناك مجلة الفنون و هي لنسيب عريضة و صدرت بنيويورك كذلك في العام نفسه أي 1913م ، و كان ميخائيل نعيمة أبرز كتابها . و أيضا مجلة السمير لإيليا أبي ماضي الذي أنشأها في أفريل من عام 1929م ، و تحولت إلى يومية سنة 1936م ،  و ظلت تعد من أروج الجرائد العربية في المهجر.

       أما في المهجرالجنوبي فأبرز المنشورات هي : مجلة العصبة الأندلسية بساوباولو و استمرت من 1935م إلى 1953م . و مجلة الشرق و مجلة الجديد و الهدى و كلها في البرازيل . أما في الأرجنتين فهناك مجلات يقظة العرب عام 1919م ، و الإصلاح عام 1929م و الهدى. و نذكر في المكسيك صحيفة الرفيق ، و نشرت في تلك البلاد حوالى عشرون مجلة طوال القرن الفائت . و مجمل ما نشر من صحف و مجلات في الأمريكتين يفوق مئة و خمسين حسب ما أورده محمد عبد المنعم خفاجي في كتابه قصة الأدب المهجري ، و ذكر جورج صيدح أن عددها فاق مئتين  و ثمانى عشرة جريدة احتجب منها مئة و ثمانون حتى جوان 1964م ( محلة العرفان اللبنانية جوان 1964م ) .      و مشيرا إلى الظروف الصعبة التي اشتغل فيها رواد هذه المجلات قال عبد اللطيف اليونس في كتابه المغتربون  : ‹‹ إن الصحافة العربية في المهجر مرتبطة ارتباطا وثيقا ببقاء اللغة العربية فيه ... و كلما قل عدد القراء ضعفت الركائز التي تقوم عليها هذه الصحف و انهارت و تلاشت ، و قد احتجبت صحف كثيرة ، و خلفت وراءها آثارا كثيرة من اللوعة والحنين ، و شعورا عميقا بأن لغة الضاد في أمريكا كلها سائرة إلى الاضمحلال و الزوال ›› .

       و المثير في الأمر أن حال الصحف هو حال الأدب، حيث زال زخم الأدب المهجري بزوال تلك الصحف          و انفراط عقد النوادي و الجماعات ، و انصراف الأجيال الجديدة إلى اللغات الأوروبية السائدة في أمريكا و البرازيل و المكسيك و الأرجنتين ...إلخ . و الملاحظ أن الأدب المهجري كان تعبيرا عن تباريح الغربة و الشوق الذي عاشه الرعيل الأول و الجيل الثاني بين الحربين العالميتين الأولى و الثانية ، حيث لم يحل عقد الستينيات حتى خفتت كل الأصوات فلم تعد تصدر همسا ، و بخاصة أن كثيرا من الأدباء آثروا العودة إلى لبنان فأكملوا ما تبقى من حياتهم . ثم إن الجيل من أبنائهم و من جاؤوا بعدهم لم يعش الغربة لأنه ولد في تلك البلاد التي ذاب فيها ، فصارت له وطنا       و قرارا . و لعل عبارات جورج صيدح تلخص الموقف تماما حينما يوجه خطابه إلى أمريكا : ‹‹ أمريكا ، يا ديار الغربة ، لقد استودعناك أرواح أحبابنا ، و زرعنا أجسامهم في تربتك ، و طرحنا أولادهم في لجتك . فلن نبخل عليك بحدائد مطابعنا و أقلام كتابنا .. خذيها حطمي هذي و ذوبي تلك ... ›› . 

                                            نهاية المحاضرة.

            

     


  • قضايا الأدب المهجري و مضامينه

     

    قضايا الأدب المهجري و مضامينه

       تناول الأدب المهجري هموم الإنسان الذي قارف الهجرة ، و كابد مشقاتها ، و خبر الحياة خارج الوطن بما لاقاه فيها من نجاحات و خيبات ، و ما كان يحدوه فيها من آمال عراض . كما تناول هموم الإنسان العربي بشكل عام ؛ فقد ظلوا يتسقطون أخبار الوطن على متون الصحف و أمواج الإذاعات ،  و في ثنايا الرسائل ...إلخ.

       لقد كانت موضوعاتهم خليطا من الهموم الشخصية و القضايا القومية ،و كذا انشغالات إنسان العالم الجديد ، تضاف إلى كل ذلك الاهتمامات الإنسانية العامة . و قد بلورت هذه الأبعاد الوجودية التي شكلت صفحات وعيهم قضايا        و موضوعات متكررة تناولوها في أشعارهم و قصصهم و رواياتهم و رسائلهم و غيرها . و من أبرز الموضوعات التي تناولوها : الحنين إلى الوطن – الموضوعات القومية و الإنسانية – الطبيعة – الحرية الدينية – التأمل في مشكلات الوجود إضافة إلى الموضوعات التقليدية ؛ و هي موضوعات ذات طبيعة رومانسية في الغالب ممزوجة بالواقعية ، و كثيرا ما تسبح بهم خيالاتهم إلى ما وراء الرومانسية ملامسة بشدة التخوم الرمزية  و تعداها إلى السوريالية . و سنكتفي فيما يلي بجولة حول الموضوعات المتكررة في أدبهم :

    1- الحنين إلى الوطن :

       يمتلئ الأدب المهجري شعره و نثره بعاطفة شديدة الأسر نحو الوطن يذكيها الحنين الدائم و الشوق الكبير الذي لا يخبو و لا ينقطع ، و التطلع المستمر إلى مرابع الصبا و أرض الطفولة و مهد الذكريات ؛ ففي هذا الصدد يدفع الحنين إلى الأهل و الوطن البعيد الشاعر ندرة حداد إلى إعلان شوقه إلى لبنان و روابيه فيقول :

    أيها الآتي  من الأوطان   و الأوطان حلوة

    لم أجد عنها و إن طال   ∞ زمان البعد سلوة

    وطني أصبح مذ فارقته   ∞ في القلب جذوة

    و يهيج مرأى الثلج رشيد أيوب فيقول :

    يا ثلج قد هيجت أشجاني ∞ ذكرتنـــــــــــي أهلي بلبناني

    بالله قل عني لإخواني     ∞ ما زال يرعى حرمة العهد

    و يتساءل بين يأس و رجاء في شعر آخر :

    هل يعود – عيش قضيناه بتلك الصرود ؟

    أو تجود – هذي الليالي بانتظام العقود   ؟

    كي نرود -  من أرض صنين مقر الجدود ؟

    أما أبو الفضل الوليد ( إلياس طعمة ) فيهتف بمرارة مناجيا بلاد الأرز و جبال لبنان العالية و شواطئ الشام الجميلة قائلا :

    يا شاطئ الشام الجميل سلام   ∞  فعليك حام الشعر و الإلهام

    و إليك يصبو نازح في صدره ∞  نور و حوليه عدى و ظلام

    قد ذاب يا لبنان قلبي في النوى   ∞  فمتى بعود تسمح الأيام ؟

    بالله يا وطني أحظي عودة        ∞ و سعادة أم غربة و حمام ؟

    إن مت في أرض الأجانب بائسا ∞ حنت إليك من الغريب عظام

    و يخاطب نسيب عريضة بلدته حمص بلوعة و حنين :

    أعرفتها تلك الربوع النائية     ∞  ما بين لبنان و بين البادية ؟

    الذكريات...و قد بدين علانية  ∞  نادين عنك بحيرة المطرود

    يا حمص يا بلدي و أرض جدودي

    عاصيك كوثرنا لنا في ورده   ∞ طعم الخلود و نكهة من شهده

    هيهات يوما نرتوي في بعده   ∞ و نبل حرقة أضلع و كبود

    و يستعجل الشاعر القروي عودة المغتربين إلى وطنهم الأم فيقول لهم :

    إيه لبنان هل يراك      ∞   نــــازح شفــــــته هــــواك ؟

    حبذا العيش في حماك   ∞ حبذا العيش ليلتين - ثم حين

    2- القضايا القومية  :

    حمل الشعراء المهجريون حبا كبيرا للوطن الأكبر ظل يعتمل في صدورهم فدعوا إلى تعظيمه ، و واكبوا أحداثه ،   و رثوا شهداءه ، معبرين عن حبهم لجميع العرب لا لبنان و سوريا فحسب فهما جزء من الوطن الأكبر ، و في هذا يقول الشاعر القروي :

    بلادك قدمها على كل ملة      ∞   و من أجلها افطر  من أجلها صم

    لقد صام هندي فروع دولة     ∞  فهل ضار علجا صوم مليون مسلم ؟

    هبوني عيدا يجعل العرب أمة  ∞ و سيروا بجثماني عي دين برهم

    فقد مزقت هذي المذاهب شملنا  ∞  و قد حطمتنا بين ناب و ميسم

    و تبدو المبالغة واضحة في البيتين الأخيرين ، و تترجم شدة عواطف الشاعر نحو قومه العرب ، و غضبه على هوانهم . ثم تراه بعد ذلك يدعو للعيس للعروبة مظهرا اعتزازه بارتباطها بالتراث الإسلامي فيقول :

    عش للعروبة هاتفا ∞ بحياتها و دوامها

    انظر إلى آثارها     ∞ تنبئك عن أيامها

    هذا التراث يمت     ∞  معظمه إلى إسلامها

    و ظل الشاعر القروي يشيد بشهداء الحروب العربية ضد الطليان و الفرنسيين ، حيث أشاد بالبطل يوسف العظمة شهيد ميسلون . و تناول شعراء المهجر فلسطين و قضيتها بكثرة ن و ممن تناولوها في شعرهم إيليا أبو ماضي الذي قال :

    ديار السلام وأرض الهنا      ∞  يشق على الكل أن تحزنا

    فخطب فلسطين خطب العلا  ∞  و ما كان رزء العلا هينا

    سهرتا له فكأن السيوف       ∞  تحز بأكبــــادنا هاهنــــــا

    أأرض الخيال و آياته         ∞  و ذات الجلال و ذات السنا

    تصير لغوغائهم  مسرحا     ∞  و تغدوا لشذاذهم مكمنا

    فقل لليهود و أشياعهم        ∞  لقد خدعتكم بروق المنى

    و لم يكتف أولئك الأدباء بنصرة فلسطين بشعرهم فقط ، فجمعوا لها المال في الكنائس ، و من بين أولئك إلياس فرحات الذي قال :

    لبيك لبيك ريحانة العرب  ∞  يا بنت عدنان يا معصومة النسب

    إنا اشتريناك بالأرواح عاطلة ∞  فلن نبيعك بعد الحلي بالنشب

    يفديك كل فتى في قلبه قبس    ∞  من نور مجدك تياه على الشهب

    ...

    النيل يزحف و العاصي ليشتركا ∞ و الرافدين مع الأردن في القلب

    و يقول الشاعر نفسه عن مشاعره القومية الراقية :

    إنا و إن تكــــن الشــــــآم ديارنـــــا ∞  فــقلوبنــا للـــعــرب بالإجــــــمال

    نهوى العراق و رافديه و ما على   ∞ أرض الجزيرة من حصى و رمال

    إذا ذكـــرت لنا الكنــــانة خلتــــنا   ∞  نروى بســائغ نيلهـــــا السلســــال

    بتنا و ما زلــنا نشــاطر أهلـــــها   ∞  مر الأســـى و حــلاوة الآمــــــال

    3- النزعة الإنسانية  :

    شاع لدى أدباء المهجر التسامح القائم على محبة المجتمع الإنساني كله من غير تعصب لقوم أو دين أو مذهب ، حيث يقول جبران في هذا الصدد : ‹‹ أحبك يا أخي ساجدا في جامعك و راكعا في هيكلك ، و مصليا في كنيستك فأنت و أنا أبناء دين واحد هو الروح ›› . و يقول إيليا أبو ماضي داعيا إلى إشاعة الحب بنبرة صوتية بارزة :                   إن نفسا لم يشرق الحب فيها ∞  هي نفس لم تدر ما معاها

    أنا بالحب قد و صلت إلى نفسي  ∞  و بالحب قد عرفت الله

    و مرد هذه النزعة إلى المؤثرات الرومانسية التي كان لها دور كبير في تأطير فكر هؤلاء الكتاب،و ضبط إبداعاتهم . و من أبرز ما بلور هذه النزعة ميلهم إلى التأمل والتفكير المركز بعيدا عن الأحكام و الأفكار المسبقة ؛ فهم يقدسون حرية الفكر ، و ينظرون إلى الوجود و العالم نظرة مجردة ، و هم لذلك يستبطنون الروح و العقل ليصوغوا نظرتهم إلى الحياة و موقفهم من العالم عابرين حدود الدين والمذهب و اللغة و ما شابه . و من العوامل التي رسخت لديهم هذه الأمور العيش بين مجتمعين  و ثقافتين مختلفتين الأمر الذي جعلهم يتجردون من ذواتهم المحلية باحثين عن الذات العامة الإنسانية غير الملتبسة بالأشكال و التلوينات العرضية ، و قد جعلتهم هذه النظرة الإنسانية العامة في حال من الصدام مع الثقافة العربية و الدين في الكثير من الأحيان ، و بخاصة جبران و إيليا و القروي .

       و ظلت المؤثرات المسيحية واضحة فيهم نلمسها من خلال تقديسهم لفكرة المحبة ، و كذلك الشأن بالنسبة للمؤثرات الإسلامية ، إذ كثيرا ما أعلوا من شأن الأخوة الإنسانية . لكن عيشهم في مجتمعات مختلفة جعلهم يحورون المحبة المسيحية و الأخوة الإسلامية نحو آفاق إنسانية عامة تتناسب و الروح الرومانسي العالمي العابر لقيود الزمان و المكان . و في تلك المحبة الإنسانية صرح وليم كاتسفليس بما يلي : ‹‹ ما عمر الأكوان إلا المحبة ، و القلب إن لم يسع الدنيا فهو وعاء صغير ، و إن لم يفهم أنغام الكائنات فهو أوتار ميتة لا تحركها أغاني الأرواح المتآخية . فليحدث كل جرح في قلوبكم جرحا ›› . و قال أمين الريحاني في المعنى نفسه تقريبا :  ‹‹ ... و في الحب الدائم تتلاشى العصبيات الدينية و القومية كلها ... ›› .  و توجه في وصيته إلى كل البشر فقال: ‹‹  أوصي إليكم إخواني في الإنسانية البيض و الصفر و السود على السواء شرقا  و غربا   :   إن حق الشعب في تقرير مصيره لحق مقدس ، فأوصيكم بالجهاد في سبيله أينما كان ...إن الأمة القوية الحرة لا تستحق حريتها مازال [ كذا] في العالم أمم مستضعفة كثيرة ›› .

    4- حب الطبيعة :

          أدباء المهجر محبون للطبيعة عميقو الإحساس بها ، عميقو الحب لها ؛   يرونها حية تحب و تكره تشقى و تسعد تفرح و تحزن ، فهي تحرك في نفوسهم الحنين إلى الوطن ، و كلما صادفتهم لوحاتها الجميلة تذكروا مشاهد لبنان الساحرة ، و توحي لهم بالتأمل العميق في أسرارها ، و تزودهم بالأخيلة الجديدة البعيدة الرحيبة كصفحة الفضاء الممتد بلا نهاية . و للغاب حظ وافر من ذلك الشغف بتلك الأم ، إذ يرونه وسطا مثاليا للحياة الصافية السامية في مقابل عالم البشر المليء بالفساد والخبث و الشر . فالناظر في قصيدة المواكب لجبران التي فاق عدد أبياتها المائتين يجد أكثر من نصفها يحتفي بالطبيعة ؛ إذ يرسم لنا صورة الشاب الذي يعزف على نايه و هو قادم من الغاب يخاطب الشيخ القادم من دنيا البشر بهذه الأبيات :

    هل تخذت الغاب مثلــــــي منزلا دون القصـــور

    فتتبعت السواقـــــــــي     ،  و تسلقت الصخور

    هل جلست العصر مثلي  ، بين جفنات العنـــب

    و العناقيد تدلــــت         ، كثريات الذهــــــب

    هل فرشت العشب ليلا    ،   و تلحفت الفضا

    زاهدا فيما سيأتــــــــي    ،  ناسيا ما قد مضى

    و يصبو إيليا أبو ماضي إلى حياة الغاب ، حيث يأنس بجوار الطبيعة ، فيفنى فيها و تفنى فيه ؛ فينشد شعرا جميلا إليك بعضه :

    و ليك الليل راهبي و شموعي الـ  ∞ شهب و الأرض كلها محرابي

    و كتابــي الفــضا أقـــرأ فيـــــــه  ∞ ســـورا ما قرأتـــــها في كتاب

    و صلاتي التي تقول السواقـــي    ∞ و غائي صوت الصبا في الغاب

    و كؤوسي الأوراق ألقت عليها الـ  ∞ شمس ذوب اللجين عند الغياب

    و رحيقي ما سال من مقلة الفجــ   ∞ ـر على العشب كاللجين المذاب

    فالغاب ملجأ كل إنسان ينشد السعادة ، و هو عندهم رمز البساطة و الجمال إنه كما يقول نسيب عريضة : ‹‹ كتاب مقدس كلماته تعاويذ تشفي من لذغات فلسفة الحياة ›› ، و يراه ميخائيل نعيمة ( عنوان الحياة الشاملة ) . و قد مكنهم حبهم الطبيعة و اندماجهم فيها من رسم صور شعرية فريدة في بعض القصائد التي زينتها لوحات شكلها حسن تصويرهم تفاعل عناصر الكون و مكنونات النفس كما في قصيدة (المساء) لإيليا أبي ماضي من ديوانه الجداول     (ص 33) و هي شبيهة بقصيدة لمطران بالعنوان نفسه ؛ إذ يقول إيليا :

    السحب تركض في الفضاء الرحب ركض الخائفين

    و الشمس تبدو خلفها صفراء عاصبة الجبين

    و البحر ساج صامت فيه خشوع الزاهدين

    لكنما عيناك باهتتان في الأفق البعيد

    سلمى ... بماذا تفكرين ؟  

    سلمى ... بماذا تحلمين ؟

    و راح يسائل سلمى هذه عن حالها التي تغيرت بين الصباح و المساء و يدعوها إلى الالتفات إلى الطبيعة الطافحة حولها :

    فاصغي إلى صوت الجداول جاريات في السفوح

    و استنشقي الأزهار في الجنات ما دامت تفوح

    و تمتعي بالشهب في الأفلاك ما دامت تلـــــوح

       لقد كانت الطبيعة لدى المهجريين عامة و جبران و نعيمة خاصة كلا متكاملا و وجودا واحدا تتنوع مظاهره لكن جوهره واحد لا ينفصل ، و يقول عيسى الناعوري في الطبيعة عند هؤلاء ما يلي :

    ‹‹ هذا الإحساس بالطبيعة الذي تجده في أدب المهجريين – و أصحاب الرابطة القلمية منهم بنوع خاص – جديد في طريقته جديد في روحه ، و جدته تسمو بالروح إلى أجواء من اللذة الصوفية ، و النشوة الروحية ، و تترك في النفس رنينا حالما ن يقطر بالعذوبة و الغبطة ن و يتعالى بالروح فوق أوهام العالم ، و فوق قيود المادة ››. يقول إيليا أبو ماضي في هذا السياق :

    أنا جزء من الكيان و فيه  ∞ كثراه كنبتة كحصاه

    كالورود التي تحب شذاه  ∞ و البعوض الذي تخاف أذاه

    ما الحي بالموت عنه انفصال∞ إن دنياه هذه أخراه

    لقد ذهب أولئك في حب الطبيعة مذهبا لم يألفه الشعر العربي فيه خليط من وحدة الوجود عند الصوفية و الاندماج في الطبيعة لدي الرومانسيين .

     5- الحرية الدينية عند أدباء المهجر:

       الحرية أساس قام عليه أدب المهجر على مستوى المعتقدات الدينية  الفكرية و المذهبية و المواقف السياسية والاجتماعية ،  و على مستوى البيان و فنون التعبير . ، إذ تراهم يناقشون أمور الدين بعيدا عن أي تعصب،           و يرفضون فكرة التكفير بشدة. و من أوائل من جاهروا بمثل هذه الأفكار و بمواقفهم الجريئة و المشككة في رجال الدين و بعض قضاياه البديهية جبران خليل جبران و أمين الريحاني اللذين وضعت كتاباتهما ضمن لائحة الممنوعات من قبل المحافظين من رجال الدين المسيحي بلبنان، فجبران مثلا يحمل على الفهم الساذج للدين في  "الأجنحة المتكسرة" ، و "عرائس المروج" ،  و "الأرواح المتمردة" ، و "يسوع ابن الإنسان" ...إلخ . يقول في قصيدته المواكب :

    و الدين في الناس حقل ليس يزرعه  ∞  غير الألى لهمو في زرعه وطر

    من آمن بنعيم الخلد مستبشر          ∞   ومن جهول يخاف النار تستعر

    فالقوم لولا عقاب البعث ما عبدوا    ∞   ربا و لولا الثواب المرتجى كفروا

    كأنما الدين ضرب من متاجرهم     ∞   إن واظبوا ربحوا أو أهملوا خسروا

    ليس في الغابات دين   ∞   لا و لا الكفر القبيح

    ...

    لم يقم في الأرض دين ∞  بعد طه و المسيح

    أما الريحاني فقد جعل الحرية الدينية و السياسية وسيلة للدعوة إلى توحيد أمته العربية و أبناء وطنه . و أما نعيمة فلم يجد غضاضة في التسوية بين المسيح و بوذا و لاوتسي و يرى في تعاليمهم خلاصة الحكمة الإنسانية لأنهم في نظره ثلاث منارات في شاطئ الوجود الإنساني تستمد نورها من مصدر واحد .

       و كثيرا ما اشترك شعراء المهجر الجنوبي في إحياء الأعياد المسيحية و الإسلامية على السواء ؛ فها هو الشاعر القروي يحيي الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم في عيد المولد :

    فإن ذكرتم رسول الله تكرمة   ∞ فبلغوه سلام الشاعر القروي

    و تبلغ الحرية الدينية ببعضهم مبلغا من الشطط كإلياس فرحات الذي سوى بين الإيمان و الشرك في سبيل تقديسه لاحترام حقوق الغير   :

    ما دمت محترما حقي فأنت أخي ∞ آمنت بالله أم آمنت بالحجر

    و الدين بالجملة ضعيف الحظ عندهم ، فهم قد يقدمون مشاعرهم الذاتية أو القومية على المشاعر الدينية ، كما في قول آخر للشاعر نفسه إلياس فرحات  :

    فلو أوحي بكره العرب دين   ∞ لكنت إذا إمام الملحدينا .

    6- الشعر التأملي عند أدباء المهجر:

       لقد هربوا من ضجيج المدينة و صخبها إلى ارتياد عوالم مجهولة ، ليكشفوا عما وراء الطبيعة و الحياة من أسرار ، وانتابتهم الحيرة و خامرهم الشك و أثأروا الأسئلة الجريئة إذ تساءلوا عن ماهية الإنسان و الله و الكون و الحياة       و المصير كما في قصيدة العنقاء لإيليا أبي ماضي التي تحدث فيها عن الحقيقة و النفس أو قصيدة من (أنت يا نفس) لنعيمة حين يقول :

    إيه نفسي أنت لحن في قد رن صداه  

    وقعتك يد فنان خفي لا أراه

    أنت ريح و نسيم أنت موج أنت بحر   

    أنت برق أنت رعد أنت ليل أنت فجر

    أنت فيض من إله و استوحى   أبو ماضي قصيدة أبي العلاء الشهيرة في الفلسفة الحياة و الموت فقال :

    من البحر تصعد هذي الغيوث ∞ و تهطل في الحر إذ تهطل

    هم في الشراب الذي نحتسي   ∞ و هم في الطعام الطام الذي نأكل

    و هم في الهواء الذي حولنا    ∞ و فيما نقول و ما نفعل

    و كان جبران و نعيمة يؤمنان بمبدإ وحدة الوجود، و بأن الإنسان جزء من الكون الذي يلف المخلوقات، يقول نعيمة  :

    هلمي هلمي نحيي القبور  ∞  و نمتص منها رحيق الدهور

    عسانا إذا ما رأينا عظاما  ∞ يفتق منها الربيع الزهور

    عرفنا بان الفناء بقاء ∞ و أن الحياة قبور تدور

    و رأى ندرة حداد النفس سرا غامضا لا يدري حقيقته غلا الخالق :

    ظنها بعضهم معرفة  ∞ أخطؤوا لم تك إلا نكرة

    ليس يدري غير من أبدعها  ∞ ما مصير النفس بعد المقبرة

    و يفكر إيليا في مصير الإنسان و حياته حينما كان في أوهايو ( سنسيناتي ) قيل أن يذهب إلى نيويورك فيقول :

    أفكر كيف جئت و كيف أمضي ∞ على رغمي فاعيا بالجواب

    أتيت و لم أكن أدري مجيئي ∞ و اذهب غير دار بالإياب

    إذا كان المصير إلى التلاشي ∞ فلم جئنا و كنا في حجاب

    و إن كان المصير إلى خلود ∞ فما معنى المنية و التباب

    أمور لا يحيط بهن فكر     ∞ و لو أمسى يحيط بكل باب

    و بعد سنوات عشر يطل إيليا بقصيدة الطلاسم (284 بيتا) التي تعد جامعة لكل التساؤلات التي طرحها أو خطرت على بال متأملي الحياة و الكون المصير :

    جئت لا أعلم من أين و لكن أتيت

    و لقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت

    و سأبقى سائرا إن شئت هذا أم أبيت

    كيف جئت كيف أبصرت طريقي

    لست أدري     

    و بقي يتقلب فيها بين البحر و الدير و المقابر و الكوخ و القصر متسائلا ثم يقول : لست أدري ٍ!

    و عكس ديوان نسيب عريضة ( الأرواح الحائرة ) الشك و الحيرة و البحث عن المعرفة و السعادة و التبرم بالوجود كما في قصيدته ( مركب الفؤاد ) حين يقول :

    قلبي بلا شراع      ∞     يطوف في البحار

    قد قارب التداعي      ∞   من كثرة الأسفار

    سفينة حقيرة            ∞   ليس يها ربان

    في ظلمات الحيرة       ∞  منارها الإيمان

    طاف البحار يرجو      ∞  ٍ جزائر الخلود

    لعله أن ينجو            ∞  ٍ  من لجة الوجود

    و معظم القصائد التأملية بسيطة الأسلوب عميقة الفكر صادقة التجربة و الإحساس ، تتعلق بقضايا الوجود الكبرى كماهية الحياة و الموت و المصير الإنساني.

     

     نهاية المحاضرة.

     

     

     

     


  • فنون الأدب المهجري

     

    فنون الأدب المهجري

          كتب المهجريون القصيدة الشعرية و الملحمة و الشعر المنثور  و الزجل كما كتبوا المقالة و القصة و الرواية   و المسرحبة و الرحلات و الترجمة الذاتية و النقد .

    *الشعر المهجري:

          نظم المهجريون الشعر في كل غرض من أغراض الشعر الغنائي المعروفة فوصفوا الطبيعة و الخمرة كما في (الكوكتيل على الشاطئ) لجورج صيدح ، و عبروا عن الحنين إلى الوطن، و تناولوا مشاعر الغربة ، و تغزلوا بالحسان، و أبدوا الشكوى و الأنين ، و رثوا أحبابهم كما كان من إيليا في حق ندرة حداد إذ قال فيه:

    لا تسل أين الهوى و الكوثر   سكت الشادي و بح الوتر

     و ابتهلوا إلى الله العلي كما في قصيدة ( صلاة ) لنسيب عريضة :

    أيا من سناه اختفى     وراء حدود البشر

    نسيتك يوم الصفا      فلا تنسني في الكدر

    أيا غافرا راحما       يرى ذل أمسي و غدا

    معاذك أن تنقما       و حلمك ملء الأبد

    مراعيك خضر المنى هي المشتهى سيدي

    و جسمي دهاه العنى حنانيك خذ بيدي

    و نظموا في الدعوة إلى الكفاح من أجل الحياة ، حيث يقول الشاعر السابق ذكره :

    يا أخي يا رفيق عزمي و ضعفي    سر نكابد إن الشجاع المكابد

    فإذا ما عييت تسند ضعفي               و أنا بعد ذا لضعفك ساند

    سر تقدم لكي نخط طريقا                 لأباة الهوان عند الشدائد

    و تناولوا الحيرة أمام الكون و الوجود فكانت قصيدة الطلاسم لإيليا أبي ماضي ، و لغز الوجود لفوزي معلوف  و غيرها .

        و نظموا شعرا اجتماعيا كالحجر الصغير و الطين  لإيليا أبي ماضي ،  و حياة مشقات لإلياس فرحات     و قد مر معنا بعض منها في المحاضرة الأولى ، و شعرا سياسيا قوميا و وطنيا و دعوا إلى السلام و بكوا فلسطين ، و لجورج صيدح كلام مؤثر فيها نورده :

    وطني طيفك ضيفي في الكرى             كلما أطبقت جفني وفد

    يتجنى فإذا ملت إلى               ضمه أعرض عني و ابتعد

    أترى طيف بلادي مثلها     كلما رق له القلب استبد

    عبثا يا طيف تبلو جلدي    ليس لي بعد فلسطين جلد

    و ظهر بينهم زجالون منهم يوسف أسعد غانم الذي ترك الديوان المطبوع الوحيد في هذا الشعر و عنوانه :   ( البرج الأخضر) ، و نعمة قازان الذي كان يختفي خلف لقب فرخ النسر ، و سليم نادر .

    و هذه أغراض قديمة مألوفة منذ القديم . ومن جهة أخرى نظم المهجريون القصة الشعرية كثيرا و من أبرزهم في هذا الصدد إيليا أبو ماضي ، و من القصص الشعري عنده ( الشاعر و السلطان الجائر ) و ( الشاعر في السماء ) ،      و لإياس فرحات قصة شعرية عنوانها :   ( كل حر في دولة الظلم جان )و أخرى  بعنوان :( الشهيدان ).أما رشيد أيوب فله ( الشيخ   و الفتاة ) و( ابنة الكوخ ). و نظم شعراء المهجر الخرافات و الحكايات و الرحلات الخيالية كما هو الشأن عند فوزي المعلوف في قصيدته ( على بساط الريح) و شفيق معلوف في قصيدة ( ملحمة عبقر) . و كتبوا الشعر المنثور فبرز فيه : جبران خليل جبران  و أمين الريحاني و يوسف أسعد غانم. و لا ينكر الدارسون من روائع الشعر المهجري شيئا   فلا  بد لهم من ذكر روائع كـ (المواكب) لجبران و (على بساط الريح )لفوزي المعلوف       و (الحكاية الأزلية) لإيليا أبي ماضي و كذلك (الطلاسم )، و (عبقر) لشفيق معلوف و ( معلقة الأرز) لنعمة قازان    و الربيع الأخير) للشاعر القروي و (أحلام الراعي) لإلياس فرحات و(على طريق إرم)  لنسيب عريضة ، و غيرها كثير . 

    *النثر المهجري:

        لا يقل النثر المهجري ثراء و تنوعا عن الشعر فقد كانت له بصمة واضحة في خارطة النثر العربي الحديث ، إذ لعب الريحاني و جبران و نعيمة دورا كبيرا في الأدب العربي الحديث كان نعم السند لدور العمالقة في البلاد العربية مشرقا و مغربا ، ويظل  مظهرا من مظاهر النهضة العربية الحديثة التي بعثت الروح في جسم أنهكه تاريخ طويل من الغفلة والانحطاط .

    ˭المقالة عند المهجريين :

       و هي فن حديث قديم راج مع ظهور الصحف لأن الكثير من أولئك الأدباء كانوا ملاك صحف و مجلات أو اعتاشوا على الكتابة فيها ، و امتد نشاطهم إلى الصحف المصرية و اللبنانية و العراقية و السورية ، و برز في هذا المجال أمين الريحاني و جبران و نعيمة إذ عرف الأول بالريحانيات و عرفا الثاني بالكتابات العاطفية و الفلسفية كما في دمعة و ابتسامة و العواصف  ، و عرف الثالث بزاد المعاد و البيادر و النور و الديجور.  و كتاب المقالات كثر بين المهجريين .  

    ˭القصة عند المهجريين

       كتب المهجريون قصصا كثيرة ، و أظهروا اهتمامهم بذلك الفن لأهميته الكبيرة في الأدب العربي          و العالمي ، و لأنه مجال خصب لإظهار مواهب الأدباء و إمتاع القراء بما تجود به القرائح الفذة للكتاب الملهمين ، و لكونه وسيلة مثلى لصقل الأذواق و تهذيب النفوس بطريق هادئ يتلافى فجاجة الوعظ و التعالم على الآخرين . و الآثارالقصصية للمهجرين مهمة في تاريخ تطور و ظهور ها الفن في الأدب العربي الحديث ، ومنها :

       (حكايات من المهجر) لعبد المسيح حداد ، و(عرائس المروج ) 1906م و ( الأرواح المتمردة) 1908م   و ( الأجنحة المتكسرة ) 1912م و ( العاصفة ) 1921م و لجبران ، و قد ضمت قصصا فنية متميزة نالت اعتراف النقاد فها هو  إسماعيل أدهم يعد كلا من ( الأجنحة المتكسرة ) و ( العاصفة ) النموذج الأول للقصة القصيرة في الأدب العربي . و كتب أمين الريحاني قصصا رائدة منها ( زنبقة الغور ) و ( خارج الحريم) . و لميخائيل نعيمة قصص قصار أهمها : ( كان ياما كان) و (صوت العالم ) و (النور و الديجور ) و تعد قصصه أنضج من قصص جبران و الريحاني لخلوها من الخطابية و الإنشائية. و لجورج حسون المعلوف كتاب  ( أقاصيص ) يضم قصصا متنوعة .

     ˭الرواية عند المهجريين :

         شهد فن الرواية بعض المساهمة من قبل المهجريين  في زمن كانت الحدود فيه غيرر واضحة بين القصة و الرواية لكن (الأجنحة المتكسرة) لجبران و (لقاء) لنعيمة و (من المهد إلى اللحد) لأنطون شكور تعد نماذج جيدة في هذا المجال . و هناك من عد من (المهد إلى اللحد) مسرحية . و بقي حتى السنوات الخيرة من يكتب روايات في المهجر كميلود بن زادي من الجزائر و له رواية بعنوان ( رياح القدر ) .

    ˭أنواع أدبية أخرى عند المهجريين :

        و في طليعتها المسرح كـ (الآباء و البنون) لميخائيل نعيمة و (ابن حامد) لفوزي المعلوف و (ذنوب الآباء) و (يسوع المصلوب) لنظير زيتون و (قيصر و كليوباترا) لخليل سعادة . و كذلك أدب الرحلات الذي كتب فيه أمين الريحاني ( ملوك العرب ، قلب لبنان ، قلب  لبنان ، المغرب الأقصى ) و كذا النقد الأدبي     و برز فيه كتاب (الغربال) لنعيمة و جورج صيدح (أدبنا و أدباؤنا في المهاجر الأمريكية).

    و هناك الرسائل كمراسلات جبران مع مي زيادة و الخطب و هي كثيرة و متعددة و كانت تلقى في المناسبات و برع الكثير من المهجريين فيها كالريحاني و وليم كاتسفليس إلخ .

    و كتب المهجريون في فن السيرة بعض الأعمال منها : (حكايات المهجر) لعبد المسيح حداد و ( أدبنا         و أدباؤنا في المهاجر الأمريكية ) لجورج صيدح  و ( صور و ذكريات )  لسلمى صايغ و( جبران حيا      و ميتا ) لحبيب مسعود.

     

     

        

         نهاية المحاضرة