Topic outline

  • General

    • نظرية إعجاز القرآن الكريم

       

       نشأة قضية إعجاز القرآن وتطورها

          نزل القرآن الكريم بلغة العرب وعلى سنن كلامها، وقد كان لهم مقدرة بيانية ظاهرة، وفصاحة فاشية، وبديهة نادرة، أسعفتهم على تذوق كل كلام جميل والتغني به، وهذا ما يبدو واضحا في تراثهم الشعري الذي يعد "ديوان العرب" ومنتهى علومهم الذي يعتزون به وبه يفاخرون بقية الأمم، لذلك كان لنزول القرآن الكريم الصدى الأعمق في نفوسهم، سواء مؤمنهم وكافرهم، ومن الطبيعي أن تحس أمة خبرت فنون القول وألفت تذوق البلاغة بخطورة هذا النص الإلهي المعجز، بحمولته البلاغية والثقافية الجديدة التي تهدد وجودها.

             القراءة فعلٌ واعٍ يقوم على جمع الكلمات في سطور لتشكيل المعنى، وهي بذلك توجب أن يكون النص مكتوبا، وقد سارع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمر بتعلم الكتابة والقراءة مباشرة بعدما رُفع الحصار عنه وعن أصحابه وبعد أن فرق الله بين الحق والباطل في غزوة بدر، وهو ما يؤكد قيام الحضارة الجديدة على الكتابة والتدوين.

          وقد كان أول ما دونه المسلمون القرآن الكريم وكان ذلك بعد معركة اليمامة التي استفحل فيها قتل القراء، وهي إشارة خطيرة ودعوة مهمة إلى البدء بالأخذ بأسباب الحضارة: الكتابة والقراءة، فكان أول مادون القرآن الكريم، ثم تلته السنة النبوية الشريفة، لتنطلق بذلك التآليف والتصانيف في مختلف العلوم والفنون، بشكل سريع ومذهل؛ فلا نكاد نصل إلى القرن الخامس الهجري حتى نلفي ابن النديم يؤلف كتابا عن الكتب المصنفة الكثيرة في كل فن وعلم من علوم ذلك العصر.

           وكان علم النحو أول ما وضع لتقويم لسان العجم بعد فشو اللحن فيهم، وهو ما اضطر الرواة واللغويين إلى أن يجمعوا اللغة، ويسعوا وضع قواعد ومقاييس للجمع والاشتقاق والتصريف.

           كل هذا المشهد الثقافي كان يعبر عن دعوة صريحة للاهتمام بالكتابة والتدوين، فبعد ما دون المسلمون القرآن الكريم استتبع ذلك النظر في آي هذا الكتاب الكريم  الذي أمروا بالنظر والتدبر في آياته، وبتلاوته وتتبع أسراره.

            وببـــــعد العهـــد بين المسلمين وبين فترة نزول القرآن الكريم تقلــــصت مساحة الخوف والمهابة، و((بدأت القراءة -أي ثقافة
      البصر- تشق طريقها نحو تأسيس جديد لتلق جديد يحد من سلطة التلقي في ظل الشفوية))(1) ليحل القارئ محل السامع، ووجدوا الجرأة في البحث عن سر إعجازه، وكان ما يدور بينهم وبين أهل الكتاب من حوارات حول مواطن الإعجاز فيه هو الحافز الأخطر لمحاولة الاقتراب منه أكثر والبحث عن مواطن الإعجاز فيه بعدما أطلق إبراهيم النظام  قولته الشهيرة فأعلن بأن سر إعجاز القرآن الكريم هو مبدأ "الصرفة" ومعناه أن الله صرف عن الناس القدرة على أن يأتوا بمثله وأعجزهم عن فعل ذلك، وهو شبيه بما تعتقده الهند في كتاب الفيدا بأنه لا يستطيع أن يؤتى بمثلها، وهذا قول البراهمة على ما يذهب المحققون.

           انطلق هذا القول في الآفاق واعتُبر أول دعوة للبحث الجدي والعميق عن سر إعجاز القرآن الكريم، وكان أول من رد هذا الزعم تلميذه الجاحظ في كتاب أسماه "نظم القرآن"، وهو كتاب مفقود ذكره الجاحظ ومن جاء بعده، ولكنه لم يصلنا حتى الآن، فكان أن نشأت الدراسات العميقة التي تبحث في سر أعجاز النص الإلهي بعد أن تحداهم اليهود والنصارى في إثبات هذا الأعجاز إن كان حاصلا في الألفاظ أم في المعاني، لذلك انقسم العلماء المسلمون ما بين معارض للصرفة ومناصر لها، وما بين قائل بأنه معجز بلفظه، ومن قائل بأنه معجز بمعناه ،ومن قائل أنه معجز بهما معا، ومن قائل غير ذلك..، فأصبح الصراع العلمي والثقافي في هذه الحال ليس بين المسلمين وأعدائهم فحسب، بل بين المسلمين أنفسهم سنة وشيعة، ومعتزلة وأشاعرة،  فاختلفوا مابين مؤيد لقول النظام ومعارض له(4).

            وقد استقبل العرب المشركون الخطاب القرآني استقبالا فيه من الدهشة والحيرة ما جعلهم  يتخبطون في تفسير بلاغته الجديدة وسحره الأخاذ، وهو ما حدا بكبار القوم أن يجتمعوا في دار الندوة لمحاولة تبرير موقفهم المعارض، وذلك بعدما أيقنوا أنه لا يقبل كل النماذج المطروحة من شعر وخطابة وسجع كهان.. وقد صور القرآن الكريم هذا التخبط وصور هذه الحيرة فقال عنهم:

           "وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين" سبأ/43.

           "بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر" الأنبياء/65.

           "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا" الفرقان/05.

           وتذكر المصادر  كثيرا من صور التأثر بالقرآن الكريم، وما يحدثه في سامعيه مؤمنين وكافرين، منها ما ذكره ابن إسحاق صاحب السيرة النبوية أن جماعة من كبار قريش كان يلذ لهم سماع القرآن الكريم والتمتع بسحره وبيانه، فيهم أبو سفيان بن حرب، وأبو جهل بن هشام، والأخنس بن شريف بن عمر بن وهب الثقفي حليف بني زهرة، من ذلك أنهم خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم من مكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لا تعودوا فلو رآكم  بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا(5)، غير أنهم عادوا مرة ثانية وثالثة للاستماع، وقد عرفوا وعلموا قدرة القرآن الكريم في استيلائه على النفوس، فمنعوا عنه الشعراء، وحالوا بين العقلاء وبينه، وقد ذكر القرآن الكريم هذا الموقف فقال عز وجل:

       "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون" فصلت/29.

          وقد كان لهذا التأثير العجيب أثر بالغ جعل مشركا كالوليد بن المغيرة يختار وصفه بالسحر من بين كل تلك التهم التي ذكرها القرآن الكريم حين أجابهم المغيرة إذ قالوا له: ((ماذا تقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وأن أصله لمغدق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر جاء بقوله، هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك))6))، وذلك استعدادا لوفود الحجيج التي ستسأل عن هذا الخطاب القرآني المعجز، وقد كانت مقاربة الوليد ماكرة جدا، لأننا نعثر على قول للرسول صلى الله عليه وسلم يذكر هذا التأثير الذي شبهه بالسحر في قوله: "إن من البيان لسحرا"(7)، وهذا كله يعبر عن العجز الذي وصل إليه العرب في عدم قدرتهم على تفسير هذا السر العجيب، وهو ما نهض به علماء الإعجاز بعد المناظرات التي وقعت لهم مع خصومهم من أهل الكتاب والملل الأخرى .

          أما تأثير القرآن الكريم في نفوس المسلمين فكان شديدا على ما تذكر كتب التراث؛ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمع لصدره وهو يصلي أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وهذا خليله أبو بكر كان رجلا بكاء لا يملك دموعه إذا قرأ القرآن فيما روته عائشة وعمر رضي الله عنهما ((يسمع له نحيب من وراء الصفوف))(8).

           وقد أعقبت مرحلة تدوين القرآن مباشرة بداية التأليف في شرح غريبه وتفسير مشكله، وتبعته في ذلك الكتابة حول سر إعجازه، وذلك بعد الشكوك  التي أثيرت حوله، والتي ذكر بن قتيبة طرفا منها:" وقد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون ولغوا فيه وهجروا وابتغوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله  بأفهام كليلة وأبصار عليلة (...) فأحببت أن أنضح عن كتاب الله، وارمي من وراءه بالحجج النيرة والبراهين البينة، وأكشف للناس ما يلبسون))(9).

          و كتب في هذا الشأن طوائف من علماء السنة وعلماء الكلام مثل الفراء في معاني القرآن، ومجاز القرآن  لأبي عبيدة، وتأويل نظم القرآن للجاحظ، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة وغيرهم كثير.. ، وقد كللت هذه الجهود بالإنجاز الكبير الذي توج به عبد القاهر الجرجاني في كتاب "دلائل الإعجاز"، والذي ينحو فيه طريقة الجاحظ، في القول بأن سر الإعجاز إنما هو في النظم والتأليف، وليس بالصرفة ولا بأنه احتوى على أخبار الأمم السابقة واللاحقة.

           لقد كان كتاب "مجاز القرآن" لأبي عبيدة أول ما كتب لهذا الغرض، فكان مرجعا أساسا لكثير من الدراسات التي عقبته لأنه يعد ((محاولة لعرض صور من التعبير القرآني وما يقابلها من التعبير في الأدب العربي شعرا، ويبين ما فيها من التجاوز والانتقال في المعنى القريب أو التركيب المعهود إلى معان وتراكيب أخرى اقتضاها الكلام))(10) وكأننا به ينحو منحى بلاغيا في تفسير سر تأثير القرآن الكريم على السامع أو المتلقي، وهي محاولة مبكرة لرسم خصائص الأسلوب القرآني، وقريب منه كتاب (معاني القرآن) للفراء الذي يتناول الأسلوب القرآني من حيث التراكيب والإعراب(11) لأن الفراء كان إماما من أئمة النحو، ومع ذلك فقد فتق الأذهان إلى كثير مما عد بعد ذلك من مسائل النحو والبلاغة، مثل حديثه عن الكناية والتشبيه والاستعارة، وأنواعها وخصائصها في الخطاب القرآني ...، وقد كان لهذه الدراسة كبير الأثر في ما كتبه ابن قتيبة في (تأويل مشكل القرآن).

           أما النقلة الحقيقية فقد كانت تلك التي حققها الجاحظ، والتي مزج فيها النقد بالبلاغة والبيان، وقد كان خير من استفاد من جهود سابقيه البلاغية والنقدية، فكان أول من فتق مسألة الإعجاز بالنظم وأرسى دعائمها كما سيأتي بيانه حالا.

       

      1-    الجـــــاحظ وقضية الإعجاز

           لقد تعددت اهتمامات الجاحظ حتى لقب بدائرة معارف عصره، وتنوعت مناحيه الفكرية لتشمل اللغة والأدب والكلام والنقد والبلاغة والاجتماع، وبرغم ما وصلنا من كتب له في هذه المناحي إلا أن كتابه الذي خصه لنظم القرآن لم يصلنا، وهو كتاب قال عنه في كتابه "البيان والتبين" أنه أفرده لبيان سر إعجاز القرآن الكريم، وقد تميز الجاحظ بعدة صفات جعلت مصنفاته تكتسب أهمية بالغة، ذلك لما يملكه من منهج علمي عقلي وحرية في الرأي والنظر والتفكير العميق، ويجمع إلى ذلك "قوة البيان ورصانة الأسلوب"،  كما ((يضم إلى هذا وذاك قوة الحجة وهي ميزة كل عقل جامح طموح))(21) وقد هدته هذه الطريقة في التفكير إلى تأمل النص القرآني تأملا جاء فيه بالتحليل المنير والنظرة العميقة، بعيدا عن الإخبار بالغيوب، وقصص الأمم الغابرة والقول بالصرفة، وقد قاده هذا الرأي إلى الاحتجاج لنظم القرآن وعجيب تأليفه بطريقة مبتكرة، وهو ما بدا واضحا في طرفٍ من نظراته الموزعة في كتاب "الحيوان" وكتاب "البيان والتبيين" ورسالته "في حجج النبوة"، وقد لخص أحمد العمري طريقة الجاحظ في خاصيتين اتبعهما في الاحتجاج لقضية النظم ((الأولى إعمال العقل وكد الفكر للوصول إلى غرضه (...) فهو يرى أن ألفاظ القرآن ليست دائما على قياس المعاني (...) فقد تخرج من مدلولاتها إلى مدلولات قريبة ومن هنا جاءت ضروب المجاز))(13)، وذلك قياسا على لغة العرب وسننهم في التعبير كقوله تعالى: "هذا نزلهم يوم الدين" ((والعذاب الأليم لا يكون نزلا، ولكنه أجراه مجرى كلامهم كقول حاتم حين أمروه بفصد بعيره وطَعنَه في سنامه وقال: هذا فَصدُه))(41).

            أما الخاصية المنهجية الأخرى فهي ((تحكيمه للذوق الفني، وجعله معيارا دقيقا عند اشتجار الخلاف حول آية من الآيات))(51).

            أبدى الجاحظ مقدرة فنية كبيرة في الكشف عن أسرار الإعجاز، لسعة اطلاعه على أفانين القول وطرق التعبير المختلفة عند العرب، وكثرة معالجته لضروب الشعر والنثر الذي أظهر براعته فيها في كتابي "البيان والتبيين" و"الحيوان"، فاستوعب بذلك طرفا من أسرار التعبير القرآني، من ذلك قوله: ((وقد يستخفُّ الناس ألفاظا ويستعملونها، وغيرها أحق بذلك منها، ألم تر أن الله تبارك وتعالى لم  يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة ))(16) لأن الناس عامتهم يتفاوتون في تقديرهم للمعاني، ثم إن جمهورهم ليس حجة في القول أو التعبير، لأن هذا من اختصاص الخاصة الذين تمرسوا على طرق التعبير البليغ وخبروا معاني القرآن ومعاني العامة من الناس، ذلك انه يرى  ((أنه بقدر دقة الألفاظ في إصابة المعنى يكون الفرق بين ألفاظ الناس في كلامهم وألفاظ القرآن))(71).

           وقد اعتمد الجاحظ على عناصر بيانية، منها اللفظ القرآني؛ إذ لاحظ أن القرآن الكريم أولى عنايةً خاصةً للفظ المناسب  للمعنى؛ ذلك أن الألفاظ يمكن أن تشترك في المعنى الواحد وأحدهما أدق من الآخر في التعبير، كما أعطى الجاحظ أهمية كبيرة للصورة البيانية التي تدخل جملة تحت مسمى "المجاز"، وأقواها هو التشبيه، وقد عد المجاز ((مفخر العرب في لغتهم، وبه وبأشباهه اتسعت))(18).

           ومن أمثلته في المجاز قوله: ((.. وأما قوله عز وجل"يخرج من بطونها شراب" فالعسل ليس بشراب، وإنما هو شيء يحول بالماء شرابا، أو بالماء نبيذا فسماه- كما ترى- شرابا، إذ كان يجيء منه الشراب"،  والجاحظ يستند في ذلك إلى طريقة العرب في القول: "وقد جاء في كلام العرب أن يقولوا: جاءت السماء اليوم بأمر عظيم، وقد قال الشاعر:

                                 إذا سقط السماءُ بأرضِ قومٍ      رعيناه وإن كانوا غِـــضاباً ))(19).

           وإذا علمنا أن كل المباحث البلاغية التي عرض لها الجاحظ إنما كانت تحاول تفسير أثر الأسلوب القرآني في المتلقي"السامع"، ومن ثم عمد الجاحظ -وهو كبير النقاد في عصره- إلى تحديد أصناف المستمعين، ما بين طبقة عليا وطبقة وسطى وطبقة أخرى أطلق عليها بالعامة، وعلى حسب أقدارهم في البلاغة والمعرفة بلغة العرب يكون قدر التأثير فيهم، وهو لا يساوي بين الأثر الذي أحدثه القرآن في بلغاء قريش-كما ذكرنا- وبين ما أحدثه في  الطوائف والشعوب الأخرى التي دخلت في الإسلام من غير العرب، وعلى هؤلاء تعلم البلاغة العربية وطريقة العرب في الكلام حتى يدركوا أسرار هذا الإعجاز القرآني ويمكنهم فهمه حق الفهم.

            يمكن القول أن المرحلة الأولى من مراحل الخطاب هو تحقيق هذا الفهم -مجرد الفهم- أما تحقيق الأثر "الاستجابة" إضافة إلى الفهم فهو ما أشار إليه الجاحظ عندما علق على تعريف العتابي للبلاغة: ((والعتابي حين زعم  أن كل من أفهمك حاجتك فهو بليغ،لم يعن أن كل من افهمنا معاشر المولدين والبلدين قصده ومعناه))(23) لأن مجرد الإفهام قد تحققه حمحمة الفرس، وكلام بعض العجم، إنما قصد العتابي إفهامك العرب حاجتك على مجاري كلام العرب الفصحاء، لأن العجم لا يفقهون قول القائل "مُكره أخاك لا بطل"))(24).

            يحدد الجاحظ أن من أحد شروط البيان مطابقة الكلام لمقتضى الحال وهو ما يسمى"المناسبة المقامية" التي ذكرها بشر بن المعتمر في صحيفته وأكدها الجاحظ عندما تحدث عن أقدار المعاني وأقدار الناس وطبقاتهم، واشترط في ذلك أن لكل صنف من الناس صنفا من الألفاظ، وهي صفة كل إنسان أن يكون له مفردات خاصة به بمستواه وبحرفته، وهذه التفاتة بارعة فـــــ ((من علم حق المعنى أن يكون الاسم له طِبقا))(25).

            وقد أكد الجاحظ على المناسبة المقامية بمناسبة اللفظ للمعنى  بأن حق المعنى الشريف  اللفظ الشريف،  ثم هو يؤكد على جعل المستمعين طبقات حينما يقول: ((إذا كان الخليفة بليغا والسيد خطيبا فإنك تجد جمهور الناس فيهما على أمرين: إما رجل يعطي كلامهما من التعظيم والتفضيل والإكبار والتبجيل على قدر حالهما من نفسه وموقعِهما من قلبه، وإما رجل تَعرِض له التهمةُ والخوف من أن يكون تعظيمُه لهما يوهمه من صوابِ قولهما وبلاغةِ كلامهما ما ليس عندهما حتى يُفرِط في الإشفاق ويسرف في التهمة، فالأول يَزيد في حقّه للذي له في نفسه، والآخر يُنقص من حقه لتهمته لنفسه، ولاتفاقه على أن يكون مخدوعا في أمره))(26)

          وقد خبر الجاحظ أقدار الناس وأقدار المعاني، وتأمل مقام الكلام فوجد أن الاستعانة بالإشارة الحسنة باليد أو بالرأس عونا للمعنى، والأخذ بكل هذه الإجراءات مما يزيد في التأثير وبلوغ المعنى الغاية التامة عند سامعه، كما لاحظ أن ((من تمام آلة القصص أن يكون القاص أعمى وأن تكون الزامرة سوداء، ومن تمام آلة المغني أن يكون فاره البرذون براق الثياب، عظيم الكبر سيئ الخلق، ومن تمام آلة الخمار أن يكون ذميا، ويكون اسمه أذين أو شلوما أو مازيار(...) ومن تمام آلة الشعر أن يكون الشاعر أعرابيا ويكون الداعي إلى الله صوفيا، ومن تمام آلة السؤدد أن يكون السيد ثقيل السمع عظيم الرأس))(27). 

            هذه الملاحظات مهمة تحيل إلى القول بأن الجاحظ كان مهتما جدا بأحوال المستمعين وبمطالبهم في الشعر والقصة والموعظة، وهذا كله ينفي ما ذهب اليه حمادي صمود من إهمال الجاحظ للمستمع، بل يكاد يكون كل ما كتبه الجاحظ مراعاة لأحوال المستمع وطبقاته ومتطلباته البيانية، ويمكن القول حينها إن الاهتمام بالخطاب والخطيب دائما إنما هو من أجل السامع والمتلقي، ولولا السامع لما كان هناك اختلاف في الأسس والمناهج ولما كان هناك داع لإنتاج الأدب إطلاقا. وبذلك يفرق الجاحظ بين الكلام الذي يجمع إلى الغرض التواصلي تحقيق المعنى الشعري فيهز أفق القارئ ويحرك فيه استجابة جمالية، وبين الكلام الذي يقتصر على عنصر التبليغ فقط.

         ويمكن الإشارة بإيجاز إلى بعض التعريفات المهمة التي أطلقها البلاغيون على البلاغة ليمكن أن ندرك مدى اهتمامهم بالخطاب والمخاطب في محاولتهم للكشف عن سر إعجاز القرآن، بخاصة جهود المتكلمين منهم.

       

      2-    أبو الحسن بن عيسى الرماني (296-384ه)

       أحد تلامذة الجاحظ الذين تأثروا به وأخذوا بمذهبه في البلاغة وإعجاز القرآن، ألف الرماني كتاب "النكت في إعجاز القرآن" فبدأ بتعريف البلاغة بأنها ((إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ))(28)، وهو ما يؤكد أن فكرة الفهم والإفهام ليست هي الغرض الوحيد الذي تسعى إليه البلاغة، بل لابد من التأثير في قلب السامع، وذلك ببعض الصور والتحسينات في الكلام، وبتوخي أحسن هذه الصور وأكثرها استمالة للقلب، وهذا يرتبط بالأثر النفسي للبلاغة(29) ويميزها عن باقي أشكال التواصل ((لأنه قد يَفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ والآخر عَــيَي))(30)، وقد استفاد الرماني من جهود أستاذه الجاحظ في وظيفة البيان وهي الفهم والإفهام، حيث استوحى منه الأثر الذي يتركه القرآن الكريم في نفس سامعيه، فكان أسلوبه الفريد في البناء والتركيب والنظم هو الفاعل الأكبر في عملية التأثير الذي تقوم به الصور البيانية من تشبيه واستعارة وكناية (...) إضافة إلى بعض المحسنات اللفظية والظواهر البديعية، والرماني يحاول بهذه الخطوة أن يجعل البلاغة "في اللفظ والمعنى معا ولا يتحقق وجودها إلا بتحققهما معا وتلازمهما تلازما تاما))(31)، ثم يقرر بعد ذلك أن البلاغة ثلاث طبقات، طبقة أعلى وطبقة أدنى وطبقة وسطى بينهما، فأعلاها ما يقوم به الإعجاز وهو القرآن.

            ثم يحصي الرماني البلاغة في عشرة أقسام هي: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان.

           وإذا كان الرماني قد اهتم بالإعجاز البلاغي الذي هو أهم هذه الوجوه وأخطرها، فإنه ذكر للقرآن الكريم ست وجوه  إعجاز أخرى إضافة إلى الإعجاز البلاغي وهي:

      الأول: عجز العرب عن معارضته مع توفر كل الشروط والأسباب والإمكانيات.

      الثاني: التحدي لكافة الأمم والناس على اختلاف السنتهم ونحلهم ألوانهم.

      الثالث: الصرفة، وهو مبدأ يقول به الرماني، ويجعله أحد وجوه الإعجاز خلافا لمذهب أستاذه الجاحظ الذي يرفضه ولا يقبل به.

      الرابع: نقض العادة وخرق كل قوانين التعبير المألوفة.

      الخامس: أخباره الصادقة عن الأمور المغيبة في الأمم السابقة واللاحقة.

       

      3-    أحمد بن إبراهيم الخطّابي(ت388ه)

          عالم سُنّي المذهب له كتاب سماه "بيان إعجاز القرآن" يرى أنه لا خلاف حول كون القرآن الكريم معجزا، وإنما الخلاف ((في موطن الإعجاز وعلته، وهو الذي يحتاج إلى بيان))(32) وذلك بعدما بين علة العجز؛ يقصد عجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن الكريم، وأفاض في شرح بقاء التحدي مرفوعا، وناقش القول بالصرفة الذي ترد عليه صريح الآية، ثم بعد ذلك سرد أنواع الإعجاز كالإخبار بالغيوب(33)، غير أن الخطابي يقبل بهذا النوع من الإعجاز بشكل عام، لأنه لا يتحقق في السور القصار، وأبدى الخطابي اهتماما بالغا بالبلاغة التي أراد أن يفسر بها سر تأثرنا بالقرآن الكريم، ورأى أن بإمكانه أن يقدم لنا شيئا عن هذا السر ((قالوا: وقد يخفى سببه عند البحث، ويظهر أثره في النفس حتى لا يلتبس على ذوي العلم والمعرفة به (...) قلت وهذا لا يُقنع في مثل هذا العلم، ولا يشفي من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أحيل به على إبهام ))(34) غير أن جهده -رغم زعمه-لم يخرج كثيرا عما جاء به سابقوه؛ إذ نراه يقول: ((أن الذي يوجد لهذا الكلام من العذوبة في حس السامع والهشاشة في نفسه، وما يتحلى به من الرونق (...) أمر لا بد له من سبب بوجوده يجب له هذا الحكم (...) وقد استقرينا أوصافه الخارجة عنه، وأسبابه النابتة منه، فلم نجد شيئا منها يثبت على النظر أو يستقيم في القياس، ويطرد على المعايير))(35).

              فما زاد الخطابي على أن نسب هذا الأثر العجيب بشكل عام إلى مراتب البيان، وأجناس الكلام، وعبر عنه بقوله: ((فوجدت أن كون ذلك المعنى مطلوبا من ذاته ومستقصى من جهة نفسه، فدل النظر وشاهد العبر أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة))(36).

           وهذا ما جعل القرآن الكريم معجزا، ذلك انه جاء ((بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أحسن المعاني))(37) كما حاول تحديد عمود* البلاغة وهو: ((وضع كل الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الخاص الأشكل به، الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه: إما تبدل المعنى أو ذهاب الرونق))(38).

           وبشيء من التفصيل تحدث عن البنية اللغوية في القرآن الكريم والطريقة الخاصة التي بها يتميز عن غيره وذلك لأسباب:

      - أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وألفاظها.

      - ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ.

      - ولا تكمل معرفتهم لاستيفائه جميع وجوه النظوم الأدبية(39).

           وبذلك يكون قد وضع نظرية نقدية ذات طابع عام(40)، مركزا بشدة على الأثر الفني الذي يتركه القرآن في نفس المتلقي، وهو يعد العامل النفسي وجها مهما من وجوه الإعجاز لم يسبقه إليه أحد كما صرح بذلك: ((قلت في إعجاز القرآن وجه آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس))(41).

         

      4-    أبو بكر الباقلاني (ت403ه)

          هو أكبر تلاميذ الإمام الأشعري اشتهر بكتابه "إعجاز القرآن" الذي يمزج فيه بين نقد الشعر والحديث عن الإعجاز القرآني، وقد انتهى إلى أن القرآن الكريم معجز من ثلاثة أوجه:

       الوجه الأول: يتضمن الإخبار عن الغيوب،

       الوجه الثاني: أنه- صلى الله عليه وسلم - كان أميا لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ،

       الوجه الثالث: بديع النظم وعجيب التأليف(42)، وهو الذي خصص له الجزء الأكبر في الحديث عن ضروب الكلام وأصنافه، وذكر أمثلة كثيرة من الشعر والنثر، ما جعله كتابا يمزج بين النظر والتطبيق.

          وقد خلص الباقلاني إلى أن نظم القرآن ((خرج عن سائر كلام العرب ونظومهم))(43) وهي إحدى معجزاته، وأهم خصائصه التي بها يعرف، وقد تعلق ذلك بالجملة،  كما تعلق بالكلمة المفردة التي تبدو نابية في الكلام العادي وغيرها من أدلة الدقة والكمال، وحجته في ذلك ((أن قدر ما يقتضيه التقدم والحذق في الصناعة قدر معروف لا يخرق العادة مثله، ولا يعجز أهل الصناعة ولا المتقدمون فيها عنه"، ولأنه  "قد خرج عن حد ما يكتسب بالحذق))(44).

            كما أن الباقلاني يرى أن إعجاز القرآن الكريم يرجع إلى نظمه وبيانه، وأن ذلك منصب على القرآن جميعه بوصفه وحدة متكاملة، وجملةً لا تفصيلاً، فهو نص كامل له سماته ومعجزاته التي تميزه عن سائر أقوال العرب وصنوف كلامهم، وهو يرفض فكرة الإعجاز البلاغي الذي يقوم ليس فقط على تحليل العبارة الجزئي ولا في فصاحة الألفاظ وحدها بل يرى أن الكلام الالهي هو الكلام القديم، وهو الكلام النفسي الذي تنزل بلغات مختلفة، ذلك أن ترتيب الألفاظ في العبارة خاضع لترتيب معانيها في النفس(45)، وهو مبدأ أساسي عند الأشاعرة، يعتمدون عليه لإثبات أن الفصاحة والبلاغة والإعجاز واقعة في المعاني النفسية، أما الألفاظ فهي تبع لها، لذلك يختلف القرآن الكريم عن سائر الكتب السماوية السابقة عليه في مستوى الفصاحة لأنه جاء بأفصح لسان هو العربية على خلاف الكتب الأخرى التي نزلت بالسريانية والعبرانية.

           أما الإخبار بالغيوب فهو الوجه الآخر من وجوه الإعجاز، غير أن الباقلاني لا يقف عنده مطولا، بل ينزع إلى محاولة إثبات تميز الأسلوب القرآني عن الأسلوب الشعري خاصة، وهو يرفض إخراج هذه الفكرة على طريقة دراسة الشعر من جهة البديع، لأن الشعر ليس من معجز القول كما هو القرآن الكريم، وأنه لا يخرق العادة وإنما المعجز ((هو الصورة الباهرة التي وجد عليها في القرآن، واتساقه مع سائر النظم القرآنية اتساقا عجيبا رائعا، بينما نجد الشعر والنثر البشري قد يحتوي على التشبيه البليغ أو الاستعارة الجيدة، ولكن يوجد في جانبها التعبير الساقط واللفظ المبتذل))(46).

          كل هذه العناصر البلاغية في النص القرآني تهدف إلى غاية واحدة صرح بها الباقلاني بكل وضوح حين قال: ((وإذا علا الكلام في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس ما يُذهِل ويُبهج، ويُقلق ويُؤنِس، ويُطمِع يُؤيِس، ويُضحك ويُبكي، ويحزن ويفرح، ويُسكن ويُزعج، ويُشجي ويُطرب، ويَهز الأعطافَ، ويستميل نحوه الأسماعَ ويورث الأريحيةَ والعزةَ. وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجودا، ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيدا، وله مسالك في النفوس لطيفة، ومداخل إلى القلوب دقيقة))(47).

       

      5-    عبد القاهر الجرجاني(ت471هـ)

          هو اللغوي النحوي والمتكلم المشهور أشعري المذهب، ارتبط اسمه بفكرة النظم لأنه شُغف بها حتى عُرفت به، كان له فهم خاص لوجوه الإعجاز القرآني، عرض له في دراستيه المهمتين هما "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"، مركزا على أن الإعجاز القرآني إنما يظهر في النظم والتأليف، وقد خلص إلى هذا المذهب بعد مناقشته لبقية الآراء مناقشة واسعة مستفيضة، وكانت نظرته هذه نتيجة لكثير من جهود سابقيه معتزلةً وأشاعرةً، وبخاصة المتكلمة منهم مثل بشر بن المعتمر والجاحظ وابن قتيبة والرماني والباقلاني والقاضي عبد الجبار بن أحمد.

             ويبدو أن بوادر اهتمام عبد القاهر الجرجاني بفكرة النظم تعود إلى بداية اشتغاله بعلم النحو؛ أي منذ شرع في شرح العوامل النحوية المئة ثم ترسخت أكثر بعد جدالات واسعة مع مختلف طوائف المتكلمين حتى باتت الركن الأساس في كتابه "دلائل الإإعجاز" حيث ((جعل اهتمامه في دلائل الإعجاز موجها إلى بناء الكلام وترتيبه، أما في أسرار البلاغة، فقد جعل عنايته التامة موجهة إلى البواعث النفسية للمعاني وموقعها في الفؤاد))(48).

           رأى الجرجاني أن الإعجاز عندما يتحقق بالنظم تصبح الفصاحة حينها راجعة إلى طريقة مخصوصة في نسق الكلام بعضه على بعض إذ ((لو كان القصد بالنظم إلى اللفظ نفسه دون أن يكون الغرض ترتيب المعاني في النفس ثم النطق بالالفاظ على حذوها لكان ينبغي أن لا يختلف حال اثنين في العلم بحسن النظم أو غير الحسن فيه لأنهما يحسان بتوالي الألفاظ في النطق إحساسا واحدا ولا يعرف أحدهما شيئا يجهله الآخر))(49)؛ إذ لا فضيلة ولا مزية للفظة المفردة في ذاتها، ولا في المعاني الشريفة وحدها، إنما تكتسب قيمتها من تآلفها مع أخواتها وتطابق اللفظ والمعنى الذي يكون نتاجه المعنى الجيد والصورة الشعرية البديعة(50)، وقد أورد الجرجاني لذلك عدة أمثلة، مثل لفظة شيء التي تتباين فصاحتها بحسب مراد الشاعر وبغيته منها قول عمر بن أبي ربيعة:

                     ومن ماليءٍ عينيه من شيءِ غيره     إذا راح نحو الجمرةِ البيضُ كالدمى

      ودونه في الفصاحة قول قول أبي حية النمري:

                         إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة     تقاضاه شيءٌ لا يمل التقاضيا

      ودونهما في الفصاحة قول المتنبي:

                       لو الفلكُ الدوار أبغضتَ سعيَه        لعـوّقـــــه شيءٌ عن الـــــــدوران

      ((فإنك تراها تقل وتضؤل بحسب نبلها وحسنها فيما تقدم))(51).

           وهذا عند الجرجاني دليل على أن اللفظة لا تحسن من حيث هي لفظة، وأن الألفاظ لا تتفاضل ولا تتزايد من حيث هي ألفاظ مفردة، وإنما تتفاضل من حيث أن لها أوضاعا مخصوصة في النظم والتأليف.

           كما عالج علاقة الفكر باللغة ليخلص إلى أن هناك منطقا يحكم ترتيب الكلمات، وهو منطق النحو، وبالنتيجة فالفكر عنده ((لا يتعلق إلا بما بين الكلم من علاقات، وإلى هذه العلاقات يستند ترتيب هذه المعاني في النفس، وهذه المعاني ليست إلا معاني النحو، فالفكر لا يتعلق إلا بها))(52)، وهذه العلاقات هي معاني النحو التي ((رُتّـب معاني الكلم في النفس على نظامها، ورتب الكلم على ترتيب معانيها في الخارج))(53)، وبذلك يعطي الجرجاني الأهمية للمقام والموضع الذي توجد فيه هذه الكلمات التي من شروطها أن توائم المقال، وهي ما يحققه التناسب بين المعاني والألفاظ.

            إن فكرة المواءمة بين المقام والمقال ديدن -أو دأبُ- كل البلاغيين الذين تحدثوا عن فكرة الإعجاز، وهي  نفسها فكرة المقدار التي وردت أول ما وردت في صحيفة بشر بن المعتمر، ومعنى ما يقوله الجرجاني أن النص بنية لغوية متآلفة، وأن سر جماله إنما يكمن في هذا التشكيل العجيب، وهو يريد بذلك "النظم" الذي يمكن أن نثبت به نظرية الإعجاز في السور القصار التي لا تحمل دائما الإخبار بالغيوب، أو حتى تلك النصوص التي لا تحمل كثيرا من الصور البيانية، لذلك نحى الجرجاني منحى جماليا سخر له ذوقه المرهف وقدرته العقلية على الكشف والإثبات في كتابه الشهير "دلائل الأعجاز".

       

             خلاصة القول أن الجرجاني يعمق من دراسة الأسلوب القرآني ليكشف عن سر إعجازه، وليكشف عن خصائص البنية اللغوية والتركيبية فيه، تلك التي يعجز الإنسان عن أن يأتي بمثلها، وهذه الطريقة الفريدة هي التي تجعل السامع مبهورا مثلما تحقق ذلك الكم من الاندهاش عند كبراء قريش برغم تكذيبهم؛ إذ اعتبروه من عمل السحر؛ ذلك يعني أنه كلما كان السامع أو المخاطب عربيا أو أعرابيا كلما تحقق ذلك التأثير البليغ. ثم إن الناس يختلفون في الفهم والإدراك كما يختلفون في الاستعداد النفسي لتلقي هذا الخطاب المعجز، وهذا ما تقوم به بعض السور القصار المؤلفة بطريقة سهلة بسيطة يصدق عليها وصف السهل الممتنع، فيها مع الإيجاز من البيان ما تتفاوت قدرات السامع على إدراكه، وهو ما يعني أيضا أن التحدي موصول إلى غير العرب من بقية الأجناس، وأن تأثيره سوف ينتاب حتى أولئك الذين لا يفهمون لغة العرب.

       

       

      الهوامـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــش

       

      1) عبد القادر عبو: فلسفة الجمال في فضاء الشعرية العربية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2007، ص33.  

      2) أحمد جمال العمري: المباحث البلاغية، ص04، وقد رجح أحمد عمار هذا القول، ينظر؛ نظرية الإعجاز القرآني وأثرها في النقد العربي القديم، دار الفكر-بيروت- لبنان. 2000م، ص48-49.

      3) العمري: المباحث البلاغية، ص30.

      4) ينظر تفصيل هذه الآراء في: نظرية الإعجاز القرآني، لأحمد سيد عمار، ص43 وما بعدها.

      5) العمري: المباحث البلاغية، ص22.

      6) نفسه: ص21.

      7) نفسه: ص24.

      8) ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، شرح وتحقيق أحمد صقر، دار إحياء الكتب العربية، 1954م، ص17.

      9) العمري: المباحث البلاغية، ص43.

      10) نفسه: ص50.

      11) نفسه: ص55.

      21) ينظر؛ الجاحظ دائرة معارف عصره: فوزي عطوي، دار الفكر-بيروت،ط2، دون تاريخ. هاكل القرآ،،،،،،،،،،،،

      31) العمري: المباحث البلاغية، ص89.

      41) نفسه: ص94.

      51) نفسه: الصفحة نفسها.

      16) الجاحظ: الحيوان، مطبعة البابي الحلبي-القاهرة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ج4، ص276.

      17) الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي- مصر، ج1، ص20.

      18) الحيوان: ج5، ص426.

      19)  المصدر نفسه: ص425.

      23) نفسه: الصفحة نفسها.

      24) نفسه: ص92-93.

      25) نفسه: ج1، ص161.

      26) نفسه: ج1، ص90.

      27) الجاحظ: البيان والتبيين، ج1، ص93-94.

      28) الرماني: رسالة النكت في إعجاز القرآن-ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني، تح: محمد خلف الله أحمد ومحمد زغلول سلام، دار المعارف، ط10، 2019م، ص75-76.

      29) ينظر: أحمد سيد عمار: نظرية الإعجاز وأثرها في النقد، ص79. مرجع سابق.

      30) الرماني: النكت في أعجاز القرآن، ص75-76.

      31) العمري: المباحث البلاغية، ص115.

      32) أحمد سيد عمار: نظرية الإعجاز، ص80-81.

      33) الخطابي: بيان إعجاز القرآن- ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني، تح: محمد خلف الله أحمد ومحمد زغلول سلام، دار المعارف، ط10، 2019م، ص22. مصدر سابق.

      34) نفسه: ص25.

      35) نفسه: ص26.

      36) نفسه: ص25-26.

      37) نفسه: ص 27.

      38) نفسه: ص29.

      39) صلاح رزق: أدبية النص-محاولة لتأسيس منهج نقدي عربي، دار غريب، القاهرة، ط2، 2001م، ص26.

      40) صلاح رزق: أدبية النص، ص27.

      41) رسالة "بيان إعجاز القرآن" للخطابي، ص70. مصدر سابق.

      42) الباقلاني: إعجاز القرآن، تح: السيد احمد صقر، دار المعارف، القاهرة، ط7، 2010م، ص33-35.

      43) العمري: المباحث البلاغية، ص209.

      44) نفسه: ص210.

       45) الباقلاني: الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، تح: محمد زاهد الكوثري، مكتبة الخانجي، القاهرة،ص106-107.

      46) العمري: المباحث البلاغية، ص213.

      47) الباقلاني: إعجاز القرآن، تعليق صلاح بن محمد بن عويضة، دار الكتب العلمية-بيروت-لبنان، ط1. 1996م، ص173.

      48) العمري: المباحث البلاغية، ص334، وينظر؛ دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، صحح أصله الشيخ محمد عبده والشيخ محمد محمود الشنقيطي، وعلق عليه الإمام محمد رشيد رضا، دار المعرفة-بيروت-لبنان، ط2، 2001م، ص289-290.

      49) عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص52.

      50)  نفسه: ص223-224.

      51) نفسه: ص50.

      52) الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص336.

      53) العمري: المباحث البلاغية، ص240.

      المصادر والمراجع

      1)     عبد القادر عبو: فلسفة الجمال في فضاء الشعرية العربية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2007م. 

      2)     الباقلاني: إعجاز القرآن، تح: السيد احمد صقر، دار المعارف، القاهرة، ط7، 2010م.

      3)     الباقلاني: الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، تح: محمد زاهد الكوثري، مكتبة الخانجي، القاهرة،ط5، 2010م.

      4)     الباقلاني: إعجاز القرآن، تعليق صلاح بن محمد بن عويضة، دار الكتب العلمية-بيروت-لبنان، ط1. 1996م.

      5)     عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، صحح أصله الشيخ محمد عبده والشيخ محمد محمود الشنقيطي، وعلق عليه الإمام محمد رشيد رضا، دار المعرفة-بيروت-لبنان، ط2، 2001م.

      6)     أحمد جمال العمري: المباحث البلاغية، مكتبة الخانجي، القاهرة-مصر، 1990م.

      7)     أحمد سيد عمار: نظرية الإعجاز القرآني وأثرها في النقد العربي القديم، دار الفكر-بيروت- لبنان. 2000م.

      8)     ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، شرح وتحقيق أحمد صقر، دار إحياء الكتب العربية، 1954م.

      9)     فوزي عطوي: الجاحظ دائرة معارف عصره، دار الفكر-بيروت،ط2، دون تاريخ. هاكل القرآ،،،،،،،،،،،،

      10) الجاحظ: الحيوان، تح عبد السلام محمد هارون، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة-مصر.

      11) الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة- مصر.

      12) الرماني والخطابي والباقلاني: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تح: محمد خلف الله أحمد ومحمد زغلول سلام، دار المعارف، ط10، 2019م.

      13) صلاح رزق: أدبية النص-محاولة لتأسيس منهج نقدي عربي، دار غريب، القاهرة، ط2، 2001م.

       

       

       

       

       

       

       

       

       


  • Topic 1

    • مفهوم الشعر في النقد العربي القديم

       

            ذكر صاحب اللسان أن كل معاني كلمة (شعر) مثل: ((شَعَرَ به ويشْعُر شِعرا وشَعرًا وشِعرةً ومشعورةً شعورًا وشِعرَى.. إلخ كلها تعني علم، وليت شعري أي ليت علمي، أو ليتني علمت، وليت شعري من ذلك، أي ليتني شعرت.. وليت شعري فلانا ما صنع! وأنشد: يا ليت شعري عن حماري ما صنع وعن أبي زيد وكم كان اضطجع ... وفي الحديث: ليت شعري ما صنع فلان، أي ليت علمي حاضرا.. إلخ والشعر: منظوم القول غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعرا))(1) لسان العرب: مادة شعر، ص2274، ط دار المعارف- القاهرة، تح عبد الله علي الكبير ومحمد أحمد حسب الله وهاشم محمد الشاذلي).

            لا تخرج معاني مفردة شعر عن العلم والفطنة والنباهة، ولكن على الرغم من الفرق الدقيق بين دلالات (علِم) و(شعَر) من حيث طريقة تحقق المعرفة في كل منهما إلا أن ابن منظور يصر على شرف الشعر على العلم بالوزن والقافية، وهذا يؤكد انحياز الشعرية العربية في -خطاب النقد على الأقل- إلى الصوت والوزن والقافية أي النغم، وفي ذلك يكمن التشبع النفسي بروح الثقافة الشفاهية، ولو أصغينا إلى روح مفردة (شعر) لأدركنا على الفور بأنها تفيد طريقة في العلم خافية وخافتة تميل إلى الاستتار والتحجب، وتتجنب الوضوح والصراحة والمباشرة في التعبير، فالشعور إحساس وحدس ومن ثم تكون طبيعته استباقية، هذا الملمح الشفاهي هو الذي أكدت عليه دراسات أدونيس للشعرية العربية، واعتبرت النغم والسماع أصلا ركينا في بنية الشعر العربي مادام التلقي والإنشاد والتغني جماع هذه الشعرية العريقة.

           منذ التعاريف التقديرية التي ذاعت بين المسلمين؛ تلك التي نسب بعضها إلى ابن عباس حين قال: "الشعر ديوان العرب"، وبعضها الآخر إلى عمر بن الخطاب حين قال "الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"، منذ ذلك الحين والتعاريف والمقاربات التحديدية لهذا المفهوم تترا، وإن كانت في معظمها تركز على خاصية الطبع التي توجد في الشاعر نفسه؛ إذ يكون مطبوعا عليها ثم تتبدى في شعره بعد ذلك، الأمر الذي يجعل مفهوم الشعرية ينحاز ابتداء في الثقافة العربية الأولى إلى الشاعر؛ فتصير شاعرية مرتبطة بالمبدع أساسا، وليست شعرية مرتبطة بالشعر، باستثناء بعض الملاحظات التي واجهت مفهوم الشعر في بنيته الداخلية، على نحو القول الذي أطلقه الأصمعي حين قرر أن "أحلى الشعر أكذبه" مرة، وحين قرر مرة أخرى أن "الشعر بابه نكد إذا أدخلته في باب الخير لان" مستشهدا بأشعار حسان بن ثابت في الجاهلية والإسلام. ويضاف إلى ذلك ما قاله ابن إسحاق الحضرمي في شعر عمر بن أبي ربيعة ((لشعر عمر بن أبي ربيعة نوطة في القلب وعلوق بالنفس ودرك للحاجة ليست لشعر، وما عصي الله عز وجل بشعر أكثر مما عصي بشعر عمر، فخذ عني ما أصف لك به أشعر قريش: من دق معناه ولطف مدخله وسهل مخرجه، ومتن حشوه، وتعطفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن حاجته))(الأصفهاني:كتاب الأغاني، تحقيق محمد الخضري بك وأبو الفضل إبراهيم وإبراهيم الأبياري، مؤسسة جمال للطباعة والنشر، بيروت-لبنان،1963م، ج1، ص108-109).

            في عصر التدوين ارتبطت الشعرية العربية بتلك المحاولات الشاملة التي استهدفت تحديد ماهية الشعر، بعد أن تم الاعتراف به في الخطاب النقدي مع ابن سلام الجمحي بأنه علم وصناعة لها أصولها الفنية وقواعدها الخاصة، فأصبح القول الشعري يعامل بوصفه نشاطا خاصا له قوانينه الداخلية التي ينتج بها معناه الخاص الذي يختلف بالضرورة عن نتاج بقية أنظمة التعبير الأخرى،  بمزيد تحسين وتجويد وتثقيف، تماما على النحو الذي فصله الجاحظ في مقولة المعاني التي تعتبر أهم قطبي عملية التعبير (المعاني/الألفاظ)، فـالشعر عند الجاحظ ((صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير)) (الجاحظ: الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، مطبعة البابي الحلبي-مصر، ط2، دون تاريخ، ج3، ص 131-132).

      ‏   وإذا توقفنا عند هذا التعريف الجاحظي للشعر لرأيناه يؤكد بوضوح على خاصية جوهرية في الشعر هي التصوير والنسج، وهو تنبيه ذكي جاء في وقت مبكر لميزة أساسية داخلية تكمن في بنية الشعر ذاتها، جعلت النقاد يفهمون حينها أن الجاحظ من أنصار اللفظ في المعركة التقليدية العريقة بين أنصار الألفاظ وأنصار المعاني، وللأسف الشديد فقد خرج النقاد في خطابهم النقدي عن موضوع البحث في طبيعة الشعر، وغفلوا عن تثمين هذه الإشارة بمزيد من التعمق والتنظير بفعل الضغوط المذهبية التي كانت محتدمة بين المعتزلة وخصومهم التقليديين سنة وأشاعرة.

          ‏ ومع أن معالجات الجاحظ للمسائل النقدية جاءت متفرقة في مواضع مختلفة من كتبه، فإن لها رباطا جامعا تنتظم فيه بكثير من القوة والوضوح، فمنبع الشعرية الأول هو الطبع ابتداء، وفي هذا الصدد لا ينازع شعراء البدو أحد سواهم، ونظرية الطبائع التي فصل الجاحظ الحديث عنها في رسائله تستوعب مفهوم الشعر وعناصره، ووظيفته الجمالية والمعرفية وخصائصه الفنية، وتحدد مصادره النفسية والاجتماعية والثقافية، لكن الوظيفة الجمالية تحوز القسط الأوفر؛ فالشعر عنده، وإن كان علما ينتج معرفة من نوع خاص، إلا أنه مبني في حقيقته على جمال النسج وجودة السبك وحسن التصوير وكثرة الماء والرونق، الشعر طراز فريد من الصياغة يمتزج فيه الطبع الصافي والبديهة الغزيرة، وقوة الغريزة، والقدرة على التصرف في اللغة على نحو خاص وأساسي.

          إن التركيز هنا على الصياغة هو اعتراف وإصرار بأن الشعر بناء لغوي في الأساس، وليس معنى ذلك أن اللفظ هو مكمن المزية، فذلك الفهم لن يستقيم ما دام الجاحظ يؤسس نظريته على مبدأ المقدار والمشاكلة بين الألفاظ والمعاني، والالتحام التام بينهما خدمة للصورة الشعرية الناجعة، هذا إلى الاعتراف بقيمة الحقيقة الشعرية في خدمة البيان. ‏ ‏ولفرط هذه النزعة المذهبية الطاغية رأينا ابن قتيبة يمعن في التركيز على المعاني وعلى الفصل الحاسم بينها وبين الألفاظ الحاملة لها ردا على خصيمه وأستاذه، فكانت المعاني عنده على أربعة أضرب(الشعر والشعراء، تحقيق مفيد قميحة ومحمد الضناوي، دار الكتب العلمية-بيروت، ط2، 2005، ص13 وما بعدها) وفق ما تقرر عنده في كتاب الشعر والشعراء، فالصنف الأجود منها هو الذي يجمع جيد المعاني في جيد الألفاظ، والصنف الأقل جودة هو الذي يجمع جيد المعنى إلى رديء الالفاظ، ثم جيد الألفاظ إلى رديء المعاني، والمستوى الأخير هو ما جمع رداءة المعاني إلى رداءة الألفاظ، وقد ذكر ابن قتيبة من الشواهد ما يخدم هذا التقسيم الحاسم.

           وكان توقف ابن قتيبة عند الأبيات المشهورة التي تنسب مرة لنصيب ومرة لكُثيّر مثار أسئلة وجدل بين النقاد، لربما كانت ستوجه هذا النقاش إلى التركيز أكثر على عناصر الشعر الناظمة لبنيته الخاصة لو تعمق ابن قتيبة في شرح وجهة نظره بما يكفي، ثم لو تمكن النقاد من بعده على الأقل من تأجيل النزعة المذهبية على نحو ما فعل الجرجاني ٱخر المطاف، فما يصنع الشعرية عند ابن قتيبة هو التحام خاص للألفاظ بالمعاني، وحسن الاختيار للفظ المناسب للمعنى المناسب، مع توكيده على مبدأ الطبع الذي يضع الشعراء المطبوعين في المرتبة الأعلى فنيا، على الرغم من محاولاته لتبرير الصنعة، والاعتراف بمذهب التجويد الفني الذي توجبه النظرة الموضوعية إلى بنية الشعر ذاته، بغض النظر عن زمنه وقائله وشهرته. لكن هيهات.. فالشعرية الجاهلية لها سلطان أقوى من أي سلطان يعتصم به ابن قتيبة وغير ابن قتيبة، إنها تبدو بتعبير الأستاذ أحمد أمين جناية الشعر الجاهلي على الشعر العربي، ولكن كيف نفسر وجود مدرسة الصنعة وأصحاب مذهب الحوليات والمحككات التي ظهرت مع عبيد الشعر مثل زهير والنابغة؟

            لقد كان لرؤية ابن قتيبة هذه الأثر البالغ على تحريف مقاصد الجاحظ، وفي دفعها إلى دائرة الاتهام بالانحياز إلى الألفاظ، وربما كان أبو هلال العسكري (كتاب الصناعتين) أول من رسخ هذا الفهم الخطأ بشكل صريح عندما أكد في نصوصه على فكرة انحياز الجاحظ إلى الألفاظ على حساب المعاني، ومن ثم راح النقاد من بعده مثل الٱمدي وابن طباطبا والقاضي الجرجاني يهتمون بجودة السبك، ويركزون على حسن التعبير على مذهب الأوائل، فجوزوا للمحدثين السرقات في المعاني، ورفضوها في الألفاظ، وسنوا نظاما خاصا بالسرقات تحت طائلة "ما ترك الأول للٱخر" مرة، ومرة تحت مبرر أن المحنة على شعراء زمانهم أشد لأنهم سبقوا إلى كل معنى مبتكر وكل لفظ بديع كما عبر ابن طباطبا، وكانت نتيجة هذا التعاطف في صالح ترسيخ عمود الشعر، بينما نالت مدرسة المعاني التي قادها أبو تمام ومسلم بن الوليد كل اللوم والمناكفة.

          إذا توقفنا عند تعاريف الشعر كما اقترحها هؤلاء لرأيناها تتقاطع في البحث عن الصيغة العلمية التي تعترف بأصالة الطبع في الشعر وبقيمة محتواه المعرفي والفني الذي يتجاوز واقعه في الوقت نفسه، وتلك ربما كانت جريرة الإفراط في الفصل بين شكل الشعر ومحتواه، وفق ما سنه لهم ابن قتيبة.

         الشعر عند ابن طباطبا(ت322هـ) -وهو ناقد جاء في إثر القتبي- لا يبتعد كثيرا في جوهره عن مذهب الأوائل؛ فالشعر طبع مدعم بالتصحيح والتقويم والتثقيف حتى لا تظهر ٱثار الصنعة والتكلف، وقد أخبر في كتاب عيار الشعر أنه جمع مختارات شعرية في كتاب سماه "تهذيب الطبع" (ينظر؛ عيار الشعر: تح عباس عبد الساتر ومراجعة نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط5، ص13) كي يروض الشعراء طباعهم على قول الشعر، ويسلكون الطريق الذي سلكه الشعراء ويحذون حذوهم، فليس على الشاعر المحدث أن يخرج على طريقة الأوائل في الوصف والتشبيه والاستعارة (عيار الشعر: ص16 وما بعدها) أما مقومات الشعر فلم تكن واضحة بما يكفي -على الأقل- في ما كتبه العلوي، فقد حام حول الشعرية ولم يقع إلا على بعض عناصرها، وذلك حين تحدث عن كيفية بناء القصيدة في فصل صناعة الشعر، فبعد أن يجمع الشاعر أدوات فنه الذي يروم القول فيه، يمخض المعنى المقصود في فكره نثرا، ثم يختار له الألفاظ التي تشاكل معانيه، والقوافي التي توافقها، والوزن الذي يسلس له القول عليه، وأن يراعي في ذلك نظم الأبيات المتناسقة، بأن يستبدل مكان كل لفظة مستكرهة لفظة سهلة، ويكون في كل ذلك ((كالنساج الحاذق الذي يفوف[أي يزين] وشيه بأحسن التفويف، ويُسدّيه ويُنيرّه ولا يهلهل شيئا منه فيشينه(..) وكالنقاش(..) وكناظم الجوهر..))(عيار الشعر: ص11).

           ولا ينسى ابن طباطبا أن يذكر الشاعر المحدث ببنية القصيدة العربية(عيار: ص12) ومعمارها الأصيل، فينصحه بأن يلتزم بترتيب الأغراض المشهورة على منوال الأوائل، لأنها سنة العرب التي خبرت النفوس بعد أن حنكتها التجارب، وألهمت جميل القول وأحسن التقسيم.

            بشأن الفكرة الأساسية التي يدور حولها كتاب العلوي هي عيار الشعر، وهذا المعيار هو الفهم الثاقب والفهم الناقد الذي به يوزن الشعر، وبه يفحص ويمحص، فما قبله وارتضاه فهو الحسن الجميل، وما لفظه وأنكره فهو الممجوج المستكره. ركز العلوي في هذا الفصل على تفسير سر تذوقنا للنصوص الأدبية والتذاذنا بفهم الشعر، في محاولة فريدة لتفسير الأثر النفسي الذي يخلفه الشعر حين يعرض على الفهم الثاقب والذهن الصافي (عيارالشعر:ص20 وما بعدها).

           قال في تعريف الشعر: ((كلام منظوم بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم، بما خص به من النظم الذي إن عدل عن جهته مجته الأسماع، وفسد على الذوق)) (عيار الشعر، ص09).

           مفهوم الشعر عند ابن طباطبا ذو بعد تعاطفي مع الشعراء الذين عانوا محنة التجديد، ولم يجدوا معاني مخترعة جديدة؛ فقد سبقهم الأوائل إلى كل معنى جيد، ولم يتركوا لهم شيئا كثيرا إلا ما كان بابه كد الذهن بالغوص والتعمق، ومن الطبيعي أن يحس العلوي بهذه الأزمة المحدقة، فهو شاعر رقيق يشجع الشعراء، ويضع بين أيديهم أدوات صناعة الشعر وكيفية بناء المعاني الشعرية في القصيدة، وكان لمفهوم الصناعة معنى تطبيقيا مرسوما بخطوات واضحة، بغرض توجيه الشعراء إلى اقتفائها ليسلم لهم الشعر قياده.

            وفي حديثه عن خصائص أشعار المولدين لا يرى لهم من مزية في شعرهم سوى الاستفادة من أشعار من تقدمهم، وتلطيف طرق تناولها من أصولها، ((وتكثروا بإبداعها فسلمت لهم عند ادعائها، للطيف سحرهم فيها وزخرفتهم لمعانيها))(عيار الشعر: ص14) وهم معذورون في ذلك لاشتداد المحنة على المولدين، وهم إنما يثابون على الإغراب في المعاني، وبلاغة النظم وأناقة النسج)) (ينظر، عيار الشعر: ص15 وما بعدها)، وذلك يعني بالضرورة أن التجويد الفني يقع على الألفاظ بحسن الصياغة والملاءمة والإغراب في المعاني، كأنه يشير إلى طريقة أبي تمام وأصحاب المعاني من طرف خفي.

           أما خصيصة الوزن فلها قيمتها الفنية في تمييز جيد الشعر من رديئه، وفي تمييزه عن غيره من أنظمة التعبير الأخرى، فالوزن في الشعر له إيقاع متناغم، يطرب له الفهم لصوابه واتساقه واعتدال أجزائه ((فإذا اجتمع للفهم مع صحة وزن الشعر صحة المعنى وعذوبة اللفظ فصفا مسموعه ومعقوله من الوزن تم قبوله له، واشتماله عليه، وإن نقص جزء من أجزائه التي يعمل بها وهي: اعتدال الوزن، وصواب المعنى، وحسن الألفاظ، كان إنكار الفهم إياه على قدر نقصان أجزائه))(عيار: ص21).

            وخلاصة مذهب ابن طباطبا في الشعر أنه مذهب ذوقي يسعى إلى الوقوف على مباديء عقلية في تفسير عملية الإبداع وسر تجاوبنا مع النصوص الشعرية الصافية التي حازت على أهم شرائط الشعر وأركانه المستمدة أساسا من الذوق العربي العام، ومن التجربة الشعرية الطويلة التي أسست لكل الأصول الفنية والشعرية في الثقافة العربية، تلك التجرة كما استلهما ابن طباطبا في الإبداع الشعري، وتحدث عنها في كتابه النقدي.

            عند الٱمدي(ت370هـ) فـــ ((ليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتي وقرب المأخذ واختيار الكلام ووضع الألفاظ في موضعها، وأن يورد المعاني باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله، وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له، وغير منافرة لمعناه، فإن الكلام لا يكتسي البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف)) (نقلا عن وليد قصاب: قضية عمود الشعر في النقد العربي، دار الفكر، دمشق، ط1، 2010، ص172).

           وينظر الألفاظ والمعاني في الموازنة: 471-471 جهمية الأوصاف.. ومذهب الأوائل ص600).

             القاضي الجرجاني(ت392هـ) نظر إلى الشعر نظرة الأوائل نفسها تقريبا؛ فهو لم يزل عنده علما ((من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه، فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز، وبقدر نصيبه منها نكون مرتبته من الإحسان))(الوساطة بين المتنبي وخصومه: تح محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، المكتبة العصرية، بيروت، دت، ص23).

          تعريف القاضي الجرجاني يرتكز أساسا على فكرة الطبع التي تؤكد -كما في كتابات ابن قتيبة وابن طباطبا- انحياز الشعرية العربية إلى عبقرية الشاعر نفسه، الأمر الذي يجعل منها رؤية شاعرية كما جرت به عادة العرب في وصف الإحساس الجميل بالأشياء حين يقولون: إنها كلمة شاعرية.. وهذا المكان شاعري، وهذا موقف شاعري..إلخ كان من السهل على الجرجاني أن يتخلص بهذه الطريقة من الخصومة التقليدية بين القدماء والمحدثين بعد أن جعل القدرة الشعرية متعلقة بطبع في الشاعر أصيل، فالطبع ظاهرة ذاتية خاصة وليست لها صلة بالأصل والمنبت والنسب، إن الطبع في ثقافة النقد القديم فكرة سحرية يمكنها أن تحل كل معضلات الشعر دون أن تتعب الناقد في التنقيب عن مميزات الشعر وخصائصه الفنية الدقيقة.

             يحسب للجرجاني أنه لاحظ شيئا مهما في خصائص بنية الشعر حين تنبه إلى أن ما يميز الشعر المحدث عن الشعر القديم هو اختلاف في البنية النفسية العامة للمجتمع، وفي طبيعة الاستعدادات الإبداعية الخاصة بكل جماعة تشترك في مجال ثقافي واحد، وفي عصر واحد، فعرب الجاهلية ((كانت تجري على عادة في تفخيم اللفظ وجمال المنطق لم تألف غيره، ولا أنِسها سواه، وكان الشعر أحد أقسام منطقها))(الوساطة:24). كأني بالجرجاني يفسر تفوق الجاهليين بالطبع العام الذي كانوا عليه، ذلك الذي سمحت لهم به قرائحهم، وألهمتهم به وأمزجتهم وحيواتهم البدوية بمنطقها الخاص، فكان الإبداع الشعري مشاعا، فاكتفوا بالرواية، بينما قل الطبع عند المحدثين ولأسباب موضوعية احتاجوا إلى الرواية والدراية معا؛ ذلك أن((سلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة، وأنت تجد ذلك ظاهرا في أهل عصرك وأبناء زمانك، وترى الجافي الجلف كز الألفاظ، معقد الكلام، وعر الخطاب؛ حتى إنك ربما وجدت ألفاظه في صوته ونغمته، في في جرسه ولهجته))(نفسه:ص25).

           وخير ما يدعم به الجرجاني هذا التفسير سلاسة شعر عدي بن زيد العبادي ورقته رغم أنه جاهلي، وشدة شعر الفرزدق ووعورة ألفاظه رغم أنه شاعر إسلامي، والسبب في ذلك عنده راجع إلى تأثيرات مكان المنشأ والمربي، فعدي لازم الحاضرة وابتعد عن جفاء الأعراب، بينما لازم الفرزدق الريف واحتك بالأعراب كثيرا، فخشن لفظه وتوعرت ألفاظه، وهذه الأمور ترجع لمؤثرات المكان والبيئة ولا علاقة لها بمتقدم أو متأخر.

           الظاهر من هذا التفسير الاجتماعي للعملية الإبداعية أن القاضي عبد العزيز الجرجاني يريد أن يعمق أركان نظرية الطبع، ويؤسسها على مشاهدات حية، ويبنيها على نماذج واقعية من الشعر، فلم يعد الطبع وحده كافيا لرسم نمط الشاعر، وتخطيط طريقته الشعرية الخاصة، فللثقافة والمجتمع والبيئة دورها في تحديد المذهب الشعري ورسم الاتجاه الفني لكل شاعر، لا جرم كان الشعر عند القاضي إذن جماع الطبع والرواية والذكاء والدربة، ويعني بالدربة كثرة الممارسة التي تعدي على الشعر كما عبر من قبل ابن سلام، من منطلق أن الشعر صناعة يتمرس بها الشاعر ويتدرب على إتقانها، وينطبق هذا تماما على ما فعله خلف الأحمر وحماد الراوية اللذان وضعا من الأشعار ما أتعب النقاد من بعدهما في تمييز ما لهما وما لغيرهما، وكان السبب في ذلك جودة قرائحهم وعلمهما بالشعر وتمرسهما على قرضه وانتحاله، وربما بتعبير أقرب إلى فهم القاضي أنهما جمعا بين الطبع والصنعة والرواية والدراية بفنون الشعر وصنوف القول.

          هناك أمر ٱخر فطن له الجرجاني في بنية الشعر المحدث هو لين ألفاظه إذا قيست بجزالة الفاظ الأقدمين، والسبب كما يرى- يرجع إلى عوامل التحضر وميل الناس إلى اللطافة والظرف في كل شؤونهم، فأصبحوا يختارون من الألفاظ أسهلها وأقلها نبوا ((فترققوا ما أمكن، وكسوا معانيهم ألطف ما سنح من الألفاظ، فصارت إذا قيست بذلك الكلام الأول يتبين فيها اللين فيُظن ضعفا، فإذا أفرد عاد ذلك اللين صفاء ورونقا، وصار ما تخيلته ضعفا رشاقة ولطفا))(نفسه: ص25). إنها عملية جادة انخرط فيها هؤلاء النقاد لتحديث مفهوم الطبع، وتوسيع مذهب الأوائل استنادا إلى رؤية تحليلية لعلاقة الشاعر بمحيطه، وطبيعة تكوينه النفسي، لكي تجعل من الطبع مذهبا معللا بطريقة معقولة، كي يشمل الشعر المحدث، من خلال تذليل الصعاب التي كانت تحول بينه وبين الاعتراف بخصوصيته الفنية.

           بهذه الطريقة التي تبدو أكثر موضوعية ومعقولية يمكن استيعاب شعر أبي تمام وأصحاب البديع، ويكون إلحاق شعر المتنبي بعد ذلك مجرد تحصيل حاصل؛ فالمتنبي شاعر مجيد ليس فقط من أجل شعره، بل لأنه طبع على الشعر فاحترفه ومارسه وخص نفسه به حتى عرف به فطلبه الخلفاء والوزراء، وتهافتوا عليه لجودته وبراعته فيه، ولا سبيل إلى مدافعة هذا التيار المتنبيُّ الجارف.

           ولكي يتحول مفهوم الطبع الذي كان بسيطا وغامضا وغير ثابت الأركان إلى نظرية في النقد تشرعن مذهب الأوائل تحت مشروع عمود الشعر، لتحفظ سنن الشعرية العربية إلى يوم الناس هذا، يضع الجرجاني اللبنات المنهجية الأخيرة من أجل صياغة الشعرية العربية صياغتها ما قبل الأخيرة (صاغ المرزوقي نظرية عمود الشعر صيغتها النهائية فيما سيأتي) في النص الٱتي: ((ولكنني ما أظنك تجد له من سورة الطرب، وارتياح النفس ما تجده لقول بعض الأعراب:  

                            أقول لصاحبي والعيس تهوي      بنا بين المنيفة والضمــار

                             تمتـــــع مـــن شميـم عـــرار نـجـد      فما بعد العشية من عرار

       فهو كما تراه بعيد عن الصنعة، فارغ الألفاظ، سهل المأخذ، قريب التناول، وكانت العرب إنما تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، وتسلم السبق فيه لمن وصف فأصاب، وشبه فقارب، وبده فأغزر، ولمن كثرت سوائر أمثاله وشوارد أبياته، ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع ولا بالاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر، ونظام القريظ)) (الوساطة: ص 33-34).

           من الجميل النادر أن نعثر على فقرة منهجية محكمة مثل هذه تتحدث بشكل دقيق وواضح عن عناصر الشعرية ومقوماتها في النقد العربي القديم، ذلك على الرغم من الانحياز الواضح والمبرر إلى مذهب الطبع كما رسخته الكتابات النقدية السابقة، فكانت النتيجة هو مراكمة الخبرة النقدية، ثم صوغها في شكل مفاهيم ومقولات تعنى بشكل محدد بمعيار الشعر، وبخصائص الخطاب الشعري الناجع، فقد جمعت بين جودة الألفاظ وجودة المعاني(وهو مبدأ حسن الصياغة)، وبين سهولة المأخذ وقربه(أي وضوح المعاني الشعرية) والبعد عن التعقيد والتكلف والغموض، وبين الإصابة في الوصف والمقاربة في التشبيه (وهي الصور الشعرية وهي عماد النظم والأسلوب لأنها طريقة خاصة في استخدام اللغة)، أما البديهة الغزيرة فهي خصوبة الخيال، وكثرة الشوارد والأمثال السائرة تعبر عن الوظيفة الفنية للشعر في المجتمع، فلا بد من ذيوع الأبيات المشهورات التي تحفظ للشاعر مكانته في المجتمع، وتضمن له الخلود والانتشار والذكر.

          ولا يفوتنا التنبيه هنا إلى أن ما يجعل العرب ((لا تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر ونظام القريظ)) كما يرى القاضي الجرجاني هو أن العرب أهل بديهة وارتجال، طباعهم جبلت على النباهة لا يجاريهم فيها الشعراء المحدثون، لأنهم تكلفوا احتذاءهم فأساؤا وأحسنوا وسموه البديع تمييزا له عن مذهب الأوائل.


  • Topic 2

  • Topic 3

  • Topic 4

  • Topic 5

  • Topic 6

  • Topic 7