المحاضرة الأولى: المدرسة، الحلقة، النظرية
المحاضرة الأولى: المدرسة، الحلقة، النظرية
استنادا إلى القانون العام الذي يقضي بأن قيام كل علم أو نظرية على العموم، وعلى غير التعيين إنما يشترط قيام ثالوث ثابت مؤدّاه بداءة المادّة المعرفية، والجهاز الاصطلاحي، ومن ثم المنهج الذي إنما يتخذه شرعة يسير فيه، والحق أن محاولة التفصيل بين مصطلحات المدرسة، والحلقة، والنظرية من حيثُ حدودُها، تفصيلا يوقع الطّالبَ موقع القول الفصل إنما مقرون بشيء من ربط حاضر اللغة كما العلم بماضيهما، وذلك من حيث المعاجمُ اللغوية التراثية.
ترد المدرسة على جذر درسَ، وهي في المعجمات التراثية إنما مرتبطة بكثير من التجسيد، غير مراعية للتجريد، لسبب ارتباط تلكم الكتب بمرحلة تجسيدية من العربية، والحق أن فقه المعاني الثانية إنما مقترن أساسا بالأولى، بل لعلّه شرطها للتوسّع والإكثار، ثم لمعرفة أصل العربية من جهة ما قامت عليه من المراجع الحضارية[1] ولذا ستجد في اللّسان معاني من مثل: دَرَسَ الشيءُ والرَّسْمُ يَدْرُسُ دُرُوساً : عفا، و دَرَسَ الأَثَرُ يَدْرُسُ دُروساً ودَرَسَته الريحُ تَدْرُسُه دَرْساً أَي محَتْه ؛ ومن ذلك دَرَسْتُ الثوبَ أَدْرُسُه دَرْساً ، فهو مَدْرُوسٌ ودَرِيسٌ ، أَي أَخْلَقْته ، ومنه قيل للثّوب الخَلَقِ، الدّريسُ، ودَرَسُوا الحِنْطَة دِراساً أَي داسُوها، ولا يزالُ دَرَسَ بهذا المعنى متداولا في اللهجات العربية الحديثة.[2]
وبعدُ ستجد معاني أخرى كثيرة في الجذر، ومنها النظم المشهور للشاعر:
وإنّ شفائي عبرة مُهراقة فهل بعد رسم دارس من معوّل
ويورد ابن فارس في المقاييس تفصيلا في الجذر مفادُه[3]: الدَّالُ وَالرَّاءُ وَالسِّينُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى خَفَاءٍ وَخَفْضٍ وَعَفَاءٍ. فَالدَّرْسُ: الطَّرِيقُ الْخَفِيُّ. يُقَالُ دَرَسَ الْمَنْزِلُ: عَفَا. وَمِنَ الْبَابِ الدَّرِيسُ: الثَّوْبُ الْخَلَقُ، وأما الذي يهمنا أكثر فقولته في الذي يلي: وَمِنَ الْبَابِ دَرَسْتُ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الدَّارِسَ يَتَتَبَّعُ مَا كَانَ قَرَأَ، كَالسَّالِكِ لِلطَّرِيقِ يَتَتَبَّعُهُ.
ومثلُه ما ورد في القرآن في آيات: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ آل عمران(79) أي بما كنتم تقرأون.
وقوله تعالى: ﴿وكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (105) أي؛ قرأت وتعلّمت من أهل الكتاب.
ثم قوله تعالى على التوالي في سور الأعراف، وسبإ، والقلم:
﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ۚ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ۗ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ الأعراف (169)
أي؛ قرأوا وعلموا ما في التوراة.
﴿وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ۖ وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ﴾ سبإ (44)
وقال تعالى:
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ القلم (37)
بالعودة إلى ابن منظور نجد: والمِدْراسُ والمِدْرَسُ : الموضع الذي يُدْرَسُ فيه[4]، ومثله المدرسة حديثا، والمدراسُ[5]: البيتُ الذي يُدرسُ فيه القرآن.
وأما المدرسة من حيث التجريد الذي يفصلها عن البناء من الحجر والمدر كما قال ابن جنّي[6]، فإنها منوطة بأن ترتبط بالأفكار التي تخوض في مسائل من علم معيّن، والمصطلح شائع الإطلاق على الدراسات النحوية القديمة، التي منها البصرة والكوفة،غير أن المتقدّمين عمدوا إلى اصطلاحات أخرى خلاف المدرسة، منها أصحاب فلان، ومنها الأكثر شيوعا وهو البصريون والكوفيون نسبة إلى البلد، قال ابن جنّي: ولا علم للعرب إلا في هاتين المدينتين[7]
والواضح أنّ المدرسة إنّما تمثّل اتجاها شرحا لا مرادفا، وتسير على طائفة من العلماء، يجمعهم في ذلك الرأي المعرفي الواحد، والبلدُ والزمانُ عموما، ولقد يقوم الواحد منهم مقام الرأس فيها، كأن يذكر الكسائي رأسا للكوفة، وذلك إنما تكريما وتطريزا لنبوغ فكره، والحق أنّ المدرسة قد تقوم مقام الترجيح، ويذكر عن البغداديين أنهم بنوا مدرستهم على ذلك، فكان ابن فارس مثلا يرجّح كثيرا من رأي الكوفة، إن في مسائل النحو أو في اصطلاحاته[8] وكانت بغداد ترجّح في أحايين أخرى رأي البصريين.
من النافل القولُ إنّ المدرسة تمثّلُ اجتماع ثالوث المصطلحية والمنهج والمادّة المعرفية، ولكن الذي ينبغي أن يرد الأذهان هو احتمال افتراق المادة داخل المدرسة الواحدة، والحق إن هذا سنراه لدى كثير من اللسانيين الأمريكيين الذين دخلوا اللسانيات (لسان)[9] من أبواب متفرّقة رغم وحدة النواة والمنطلق.
بالحديث عن الحلقة، نجد ابن فارس أقومَ من شرح الجذر (ح ل ق) وأقامه على ثلاثة أصول، قال: الْحَاءُ وَاللَّامُ وَالْقَافُ أُصُولٌ ثَلَاثَةٌ: فَالْأَوَّلُ تَنْحِيَةُ الشَّعْرِ عَنِ الرَّأْسِ، ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْآلَاتِ مُسْتَدِيرٍ. وَالثَّالِثُ يَدُلُّ عَلَى الْعُلُوِّ.[10] والقَصدُ من الأصول لدى ابن فارس المعاني.
والذي يهمنا ههنا هو الأصل الثاني، ذلك أن الحلَقة بفتتح اللاّم لدى سيبويه[11] هي الدّائرة، ولقد أنكرها ابن السّكيت وأجراها على التسكين هو وغيره، ثم أجراها اللّحياني على حلْقة وحلَقة، وقال كُراع حلْقة القوم وحلَقتهم، وأمّا حِلقةٌ التي تجمعُ على حِلق فهي لغة بني الحارث بن كعب[12]
والحِلَقُ شيء مما شاع حديثا في مُدَارَسَةِ القرآن –كما مرّ بنا- حتى إذا كنّا في موضع تفريق وقفنا على شيء من المخالفة بينهما، يشرحها اتّساع المدرسة وضيقُ الحلقة من حيث العددُ، والتأييدُ، والإجماعُ، ومن ثم الشيوعُ والعلمية.
ولا مناص أن نذكر ههنا أن ارتباط المصطلحين بما يسمّى اللسانيات إنما يفرض علينا التخصيص في التفريق بين الذي أسس لهُ من انتسبوا إلى براغ باعتبارها حلقة، وبين الذين أقاموا الوظيفية functionalism مدرسةً لسانيةً لها أسسها النظرية وتطبيقاتها العملية، الحق أن الفارق بين الاصطلاحين هو ذلكم الذي نراه بين الشّرعة والمنهاج، ويبدو أن الشرعة لأول الطريق مثلما كانت الحلقة (الحلقة) وأن المنهاج لكلّ السببيل تماما كما لدى الوظيفية.
في النظرية المصطلح الأكثر شيوعا في حقل العلوم التاريخية باصطلاح عبد الرحمــن بدوي، يبدو الأمر أكثر دقّة لسبب خوض كثير من الدّارسين في التسمية والمفهوم، قبل ذلك، علينا أن نبدأ من ابن فارس الذي ذكر الجذر كالتالي:[13] النُّونُ وَالظَّاءُ وَالرَّاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَرْجِعُ فُرُوعُهُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ تَأَمُّلُ الشَّيْءِ وَمُعَايَنَتُهُ، ثُمَّ يُسْتَعَارُ وَيُتَّسَعُ فِيهِ*. فَيُقَالُ: نَظَرْتُ إِلَى الشَّيْءِ أَنْظُرُ إِلَيْهِ، إِذَا عَايَنْتَهُ. وَحَيٌّ حِلَالٌ نَظَرٌ: مُتَجَاوِرُونَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَيَقُولُونَ: نَظَرْتُهُ، أَيِ انْتَظَرْتُهُ. وَهُوَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ، كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَأْتِي فِيهِ.
وذكر ابن منظور بعد التفصيل في الجذر: والنَّظَرُ : الفكر في الشيء تُقَدِّره وتقيسه منك، ومن ذلك النظرية أي مجموع الأفكار والمبادئ في العلم، وذكر الكفوي (ت 1094ه) في الكليات قولا محمودا في النظر فقال: وَالنَّظَر: تَرْتِيب أُمُور مَعْلُومَة على وَجه يُؤَدِّي إِلَى استعلام مَا لَيْسَ بِمَعْلُوم.[14] أي يوصل إلى معرفة جديدة، والحق أنَّ هذا أصل العلوم وديدنها، ذلك أن قوامها هو التراكمية والتراتبية، قول عبد الرحمن أيوب وذكر الكفوي قولا مأثورا آخر مفاده: النظر عبارة عن حركة القلب لطلب علم عن علم، وسرّ القلب ههنا في أنّه يحصل المعاني ويعمل بالصيرة خلاف البصر الذي يشتغل على الأجساد.[15] وتبدو النظرية حُكما إلى تاريخ العلم شيئا من الاجتهاد الفردي على العموم، ذلك أن التجارب التاريخية تحيلنا إلى نظريات قامت على على مبدإ الفردانية، بل لعلَّ الأخير هو أكثر سمة دفعت إلى التميز والفرادة،
[1] في كتابنا: فكرة الاصطلاح في التراث اللغوي العربي، المنشور عن دار ومضة سنة 2022، شرحنا نظرية المراجع الحضارية التي قامت عليها الأجهزة الاصطلاحية العربية فيما يخص علوم النحو والصرّف، وفقه اللغة العربية، ولقد حصرت تلكم المراجع في التالي: مرجع النسيج أو الثوب، ومنه مصطلحات عدّة كالنّص، والثني، والإهمال، مرجع الماء، ومنه اصطلاح الاشتقاق، مرجع البناء، ومنه الإعراب والبناء، والرفع، والجرّ، والثقل، وغيرها كثير، ومن ثم مرجع خلق الإنسان والتي منها الإدغام والإبهام.
[2] ابن منظور محمد بن مكرم الأفريقي المصري، لسان العرب، دار صادر بيروت، مادة دَرس
[3] ابن فارس أحمد، مقاييس اللغة، مادّة درس، ج2، ص 267/ 268.
[4] ابن منظور، لسان العرب-مرجع سابق، مادة د ر س.
[5] نفسه، مادة د ر س.
[6] ذكر ابن جني البناء من الحجر والمدر، أي من الحطب، وهو خاص بأهل الحضر، على خلاف أهل الوبر الذين مسكنهم الخيمة.
[7] الحلبي أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي، مراتب النحويين، تح: أبو الفضل إبراهيم، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها القاهرة، ص24-25.
[8] يمثّل أن الصاحبي في فقه اللغة ذروة ما وصل إليه البحث اللغوي عند ابن فارس، والحق أنه قصد إلى فقه المعجم قبسا من لدن أبي عبيدة الذي قال: وليسَ كل مُدّع علمه بالنحو عالما التفسير ما لم يتعلّم اللغة، ومن ثم نجد هذا حاضر في المعجم التطبيقي الرائع لابن فارس وهو المقاييس، وفي جانب النحو عمد ابن فارس إلى ترجيح مصطلحات الكوفيين ليس اعتباطا، وإنما سيرا على رؤيا معرفية قويمة، لعلنا سنضرب مثالا ههنا باصطلاح الإضمار الذي أحلّه محلّ المجاز والكناية وما يجري مجراهما.
[9] سيتم التّخلي ابتداء من ههنا عن اصطلاح اللغة، لسبب أن كثيرا من اللسانيين قد سلموا بالمفهوم البيولوجي للغة، والذي يذهب بها إلى تصور الملكة التي قال بها ابن خلدون في التراث اللغوي، وأثبتتها علوم الطب والأعصاب.
[10] ابن فارس، مقاييس اللغة، مادة ح ل ق، ج 2، ص 98.
[11] ينظر: ابن منظور، اللسان-مرجع سابق، مادة ح ل ق.
[12] بنو الحارث بن كعب قبيلة من قبائل العربية التي أنزل على لسانها القرآن الكريم، قبسا من قول النبي الرسول الأمين: أنزل القرآن على سبعة أحرف، أو على سبع لهجات، ولغةُ الحارث بن كعب تلزم المثنَّى الألفَ دائما، أي رفعا ونصبا وجرّا، فيقولون جاءَ الرجلان، ورأيتُ الرجلان، ومررتُ بالرجلان، https://rmshreq.journals.ekb.eg/article_238972_d621a57891ab2659ca97c20fadc95bc8.pdf
[13] ابن فارس، المقاييس-مرجع سابق، مادة ن ظ ر، ج 5، ص 444.
* الاتّساع مصطلح نحوي بلاغي، وهو من مثل ما ذكرنا سابقا في الإضمار، يحلُّ محلّ المجاز والاستعارة لدى ابن فارس، وذكره سيبويه في الكتاب، وتلكم رؤية معرفية قويمة.
[14] الكفوي أبو البقاء، الكلّيات، تحقيق عدنان درويش، محمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، د ط، د ت، ص 904.
[15] نسوق ههنا قولا قيما -لم نقدر تجاوزه- ذكره الكفوي في شرح النظر الذي من النظرية، قال: وَلَا شكّ أَن الْعلم الْحَاصِل عقيب النّظر أَمر مُمكن متكرر فَتكون مستندة إِلَيْهِ بطرِيق الْعَادة فَحِينَئِذٍ يُقَال: النّظر صادر بإيجاد الله وَمُوجب للْعلم بالمنظور فِيهِ إِيجَابا عقلياً بِحَيْثُ يَسْتَحِيل أَن يَنْفَكّ عَنهُ وَالنَّظَر بِمَعْنى الْبَحْث وَهُوَ أَعم من الْقيَاس، وَنظر فِيهِ: تفكَّر كَقَوْلِه تَعَالَى: أولم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض{ وَخُص بِالتَّأَمُّلِ فِي قَوْله تَعَالَى: }أَفلا ينظرُونَ إِلَى الْإِبِل كَيفَ خُلقت{
