المدارس اللسانية
Topic outline
-
-
المحاضرة الأولى: المدرسة، الحلقة، النظرية
استنادا إلى القانون العام الذي يقضي بأن قيام كل علم أو نظرية على العموم، وعلى غير التعيين إنما يشترط قيام ثالوث ثابت مؤدّاه بداءة المادّة المعرفية، والجهاز الاصطلاحي، ومن ثم المنهج الذي إنما يتخذه شرعة يسير فيه، والحق أن محاولة التفصيل بين مصطلحات المدرسة، والحلقة، والنظرية من حيثُ حدودُها، تفصيلا يوقع الطّالبَ موقع القول الفصل إنما مقرون بشيء من ربط حاضر اللغة كما العلم بماضيهما، وذلك من حيث المعاجمُ اللغوية التراثية.
ترد المدرسة على جذر درسَ، وهي في المعجمات التراثية إنما مرتبطة بكثير من التجسيد، غير مراعية للتجريد، لسبب ارتباط تلكم الكتب بمرحلة تجسيدية من العربية، والحق أن فقه المعاني الثانية إنما مقترن أساسا بالأولى، بل لعلّه شرطها للتوسّع والإكثار، ثم لمعرفة أصل العربية من جهة ما قامت عليه من المراجع الحضارية[1] ولذا ستجد في اللّسان معاني من مثل: دَرَسَ الشيءُ والرَّسْمُ يَدْرُسُ دُرُوساً : عفا، و دَرَسَ الأَثَرُ يَدْرُسُ دُروساً ودَرَسَته الريحُ تَدْرُسُه دَرْساً أَي محَتْه ؛ ومن ذلك دَرَسْتُ الثوبَ أَدْرُسُه دَرْساً ، فهو مَدْرُوسٌ ودَرِيسٌ ، أَي أَخْلَقْته ، ومنه قيل للثّوب الخَلَقِ، الدّريسُ، ودَرَسُوا الحِنْطَة دِراساً أَي داسُوها، ولا يزالُ دَرَسَ بهذا المعنى متداولا في اللهجات العربية الحديثة.[2]
وبعدُ ستجد معاني أخرى كثيرة في الجذر، ومنها النظم المشهور للشاعر:
وإنّ شفائي عبرة مُهراقة فهل بعد رسم دارس من معوّل
ويورد ابن فارس في المقاييس تفصيلا في الجذر مفادُه[3]: الدَّالُ وَالرَّاءُ وَالسِّينُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى خَفَاءٍ وَخَفْضٍ وَعَفَاءٍ. فَالدَّرْسُ: الطَّرِيقُ الْخَفِيُّ. يُقَالُ دَرَسَ الْمَنْزِلُ: عَفَا. وَمِنَ الْبَابِ الدَّرِيسُ: الثَّوْبُ الْخَلَقُ، وأما الذي يهمنا أكثر فقولته في الذي يلي: وَمِنَ الْبَابِ دَرَسْتُ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الدَّارِسَ يَتَتَبَّعُ مَا كَانَ قَرَأَ، كَالسَّالِكِ لِلطَّرِيقِ يَتَتَبَّعُهُ.
ومثلُه ما ورد في القرآن في آيات: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ آل عمران(79) أي بما كنتم تقرأون.
وقوله تعالى: ﴿وكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (105) أي؛ قرأت وتعلّمت من أهل الكتاب.
ثم قوله تعالى على التوالي في سور الأعراف، وسبإ، والقلم:
﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ۚ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ۗ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ الأعراف (169)
أي؛ قرأوا وعلموا ما في التوراة.
﴿وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ۖ وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ﴾ سبإ (44)
وقال تعالى:
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ القلم (37)
بالعودة إلى ابن منظور نجد: والمِدْراسُ والمِدْرَسُ : الموضع الذي يُدْرَسُ فيه[4]، ومثله المدرسة حديثا، والمدراسُ[5]: البيتُ الذي يُدرسُ فيه القرآن.
وأما المدرسة من حيث التجريد الذي يفصلها عن البناء من الحجر والمدر كما قال ابن جنّي[6]، فإنها منوطة بأن ترتبط بالأفكار التي تخوض في مسائل من علم معيّن، والمصطلح شائع الإطلاق على الدراسات النحوية القديمة، التي منها البصرة والكوفة،غير أن المتقدّمين عمدوا إلى اصطلاحات أخرى خلاف المدرسة، منها أصحاب فلان، ومنها الأكثر شيوعا وهو البصريون والكوفيون نسبة إلى البلد، قال ابن جنّي: ولا علم للعرب إلا في هاتين المدينتين[7]
والواضح أنّ المدرسة إنّما تمثّل اتجاها شرحا لا مرادفا، وتسير على طائفة من العلماء، يجمعهم في ذلك الرأي المعرفي الواحد، والبلدُ والزمانُ عموما، ولقد يقوم الواحد منهم مقام الرأس فيها، كأن يذكر الكسائي رأسا للكوفة، وذلك إنما تكريما وتطريزا لنبوغ فكره، والحق أنّ المدرسة قد تقوم مقام الترجيح، ويذكر عن البغداديين أنهم بنوا مدرستهم على ذلك، فكان ابن فارس مثلا يرجّح كثيرا من رأي الكوفة، إن في مسائل النحو أو في اصطلاحاته[8] وكانت بغداد ترجّح في أحايين أخرى رأي البصريين.
من النافل القولُ إنّ المدرسة تمثّلُ اجتماع ثالوث المصطلحية والمنهج والمادّة المعرفية، ولكن الذي ينبغي أن يرد الأذهان هو احتمال افتراق المادة داخل المدرسة الواحدة، والحق إن هذا سنراه لدى كثير من اللسانيين الأمريكيين الذين دخلوا اللسانيات (لسان)[9] من أبواب متفرّقة رغم وحدة النواة والمنطلق.
بالحديث عن الحلقة، نجد ابن فارس أقومَ من شرح الجذر (ح ل ق) وأقامه على ثلاثة أصول، قال: الْحَاءُ وَاللَّامُ وَالْقَافُ أُصُولٌ ثَلَاثَةٌ: فَالْأَوَّلُ تَنْحِيَةُ الشَّعْرِ عَنِ الرَّأْسِ، ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْآلَاتِ مُسْتَدِيرٍ. وَالثَّالِثُ يَدُلُّ عَلَى الْعُلُوِّ.[10] والقَصدُ من الأصول لدى ابن فارس المعاني.
والذي يهمنا ههنا هو الأصل الثاني، ذلك أن الحلَقة بفتتح اللاّم لدى سيبويه[11] هي الدّائرة، ولقد أنكرها ابن السّكيت وأجراها على التسكين هو وغيره، ثم أجراها اللّحياني على حلْقة وحلَقة، وقال كُراع حلْقة القوم وحلَقتهم، وأمّا حِلقةٌ التي تجمعُ على حِلق فهي لغة بني الحارث بن كعب[12]
والحِلَقُ شيء مما شاع حديثا في مُدَارَسَةِ القرآن –كما مرّ بنا- حتى إذا كنّا في موضع تفريق وقفنا على شيء من المخالفة بينهما، يشرحها اتّساع المدرسة وضيقُ الحلقة من حيث العددُ، والتأييدُ، والإجماعُ، ومن ثم الشيوعُ والعلمية.
ولا مناص أن نذكر ههنا أن ارتباط المصطلحين بما يسمّى اللسانيات إنما يفرض علينا التخصيص في التفريق بين الذي أسس لهُ من انتسبوا إلى براغ باعتبارها حلقة، وبين الذين أقاموا الوظيفية functionalism مدرسةً لسانيةً لها أسسها النظرية وتطبيقاتها العملية، الحق أن الفارق بين الاصطلاحين هو ذلكم الذي نراه بين الشّرعة والمنهاج، ويبدو أن الشرعة لأول الطريق مثلما كانت الحلقة (الحلقة) وأن المنهاج لكلّ السببيل تماما كما لدى الوظيفية.
في النظرية المصطلح الأكثر شيوعا في حقل العلوم التاريخية باصطلاح عبد الرحمــن بدوي، يبدو الأمر أكثر دقّة لسبب خوض كثير من الدّارسين في التسمية والمفهوم، قبل ذلك، علينا أن نبدأ من ابن فارس الذي ذكر الجذر كالتالي:[13] النُّونُ وَالظَّاءُ وَالرَّاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَرْجِعُ فُرُوعُهُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ تَأَمُّلُ الشَّيْءِ وَمُعَايَنَتُهُ، ثُمَّ يُسْتَعَارُ وَيُتَّسَعُ فِيهِ*. فَيُقَالُ: نَظَرْتُ إِلَى الشَّيْءِ أَنْظُرُ إِلَيْهِ، إِذَا عَايَنْتَهُ. وَحَيٌّ حِلَالٌ نَظَرٌ: مُتَجَاوِرُونَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَيَقُولُونَ: نَظَرْتُهُ، أَيِ انْتَظَرْتُهُ. وَهُوَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ، كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَأْتِي فِيهِ.
وذكر ابن منظور بعد التفصيل في الجذر: والنَّظَرُ : الفكر في الشيء تُقَدِّره وتقيسه منك، ومن ذلك النظرية أي مجموع الأفكار والمبادئ في العلم، وذكر الكفوي (ت 1094ه) في الكليات قولا محمودا في النظر فقال: وَالنَّظَر: تَرْتِيب أُمُور مَعْلُومَة على وَجه يُؤَدِّي إِلَى استعلام مَا لَيْسَ بِمَعْلُوم.[14] أي يوصل إلى معرفة جديدة، والحق أنَّ هذا أصل العلوم وديدنها، ذلك أن قوامها هو التراكمية والتراتبية، قول عبد الرحمن أيوب وذكر الكفوي قولا مأثورا آخر مفاده: النظر عبارة عن حركة القلب لطلب علم عن علم، وسرّ القلب ههنا في أنّه يحصل المعاني ويعمل بالصيرة خلاف البصر الذي يشتغل على الأجساد.[15] وتبدو النظرية حُكما إلى تاريخ العلم شيئا من الاجتهاد الفردي على العموم، ذلك أن التجارب التاريخية تحيلنا إلى نظريات قامت على على مبدإ الفردانية، بل لعلَّ الأخير هو أكثر سمة دفعت إلى التميز والفرادة،
[1] في كتابنا: فكرة الاصطلاح في التراث اللغوي العربي، المنشور عن دار ومضة سنة 2022، شرحنا نظرية المراجع الحضارية التي قامت عليها الأجهزة الاصطلاحية العربية فيما يخص علوم النحو والصرّف، وفقه اللغة العربية، ولقد حصرت تلكم المراجع في التالي: مرجع النسيج أو الثوب، ومنه مصطلحات عدّة كالنّص، والثني، والإهمال، مرجع الماء، ومنه اصطلاح الاشتقاق، مرجع البناء، ومنه الإعراب والبناء، والرفع، والجرّ، والثقل، وغيرها كثير، ومن ثم مرجع خلق الإنسان والتي منها الإدغام والإبهام.
[2] ابن منظور محمد بن مكرم الأفريقي المصري، لسان العرب، دار صادر بيروت، مادة دَرس
[3] ابن فارس أحمد، مقاييس اللغة، مادّة درس، ج2، ص 267/ 268.
[4] ابن منظور، لسان العرب-مرجع سابق، مادة د ر س.
[5] نفسه، مادة د ر س.
[6] ذكر ابن جني البناء من الحجر والمدر، أي من الحطب، وهو خاص بأهل الحضر، على خلاف أهل الوبر الذين مسكنهم الخيمة.
[7] الحلبي أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي، مراتب النحويين، تح: أبو الفضل إبراهيم، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها القاهرة، ص24-25.
[8] يمثّل أن الصاحبي في فقه اللغة ذروة ما وصل إليه البحث اللغوي عند ابن فارس، والحق أنه قصد إلى فقه المعجم قبسا من لدن أبي عبيدة الذي قال: وليسَ كل مُدّع علمه بالنحو عالما التفسير ما لم يتعلّم اللغة، ومن ثم نجد هذا حاضر في المعجم التطبيقي الرائع لابن فارس وهو المقاييس، وفي جانب النحو عمد ابن فارس إلى ترجيح مصطلحات الكوفيين ليس اعتباطا، وإنما سيرا على رؤيا معرفية قويمة، لعلنا سنضرب مثالا ههنا باصطلاح الإضمار الذي أحلّه محلّ المجاز والكناية وما يجري مجراهما.
[9] سيتم التّخلي ابتداء من ههنا عن اصطلاح اللغة، لسبب أن كثيرا من اللسانيين قد سلموا بالمفهوم البيولوجي للغة، والذي يذهب بها إلى تصور الملكة التي قال بها ابن خلدون في التراث اللغوي، وأثبتتها علوم الطب والأعصاب.
[10] ابن فارس، مقاييس اللغة، مادة ح ل ق، ج 2، ص 98.
[11] ينظر: ابن منظور، اللسان-مرجع سابق، مادة ح ل ق.
[12] بنو الحارث بن كعب قبيلة من قبائل العربية التي أنزل على لسانها القرآن الكريم، قبسا من قول النبي الرسول الأمين: أنزل القرآن على سبعة أحرف، أو على سبع لهجات، ولغةُ الحارث بن كعب تلزم المثنَّى الألفَ دائما، أي رفعا ونصبا وجرّا، فيقولون جاءَ الرجلان، ورأيتُ الرجلان، ومررتُ بالرجلان، https://rmshreq.journals.ekb.eg/article_238972_d621a57891ab2659ca97c20fadc95bc8.pdf
[13] ابن فارس، المقاييس-مرجع سابق، مادة ن ظ ر، ج 5، ص 444.
* الاتّساع مصطلح نحوي بلاغي، وهو من مثل ما ذكرنا سابقا في الإضمار، يحلُّ محلّ المجاز والاستعارة لدى ابن فارس، وذكره سيبويه في الكتاب، وتلكم رؤية معرفية قويمة.
[14] الكفوي أبو البقاء، الكلّيات، تحقيق عدنان درويش، محمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، د ط، د ت، ص 904.
[15] نسوق ههنا قولا قيما -لم نقدر تجاوزه- ذكره الكفوي في شرح النظر الذي من النظرية، قال: وَلَا شكّ أَن الْعلم الْحَاصِل عقيب النّظر أَمر مُمكن متكرر فَتكون مستندة إِلَيْهِ بطرِيق الْعَادة فَحِينَئِذٍ يُقَال: النّظر صادر بإيجاد الله وَمُوجب للْعلم بالمنظور فِيهِ إِيجَابا عقلياً بِحَيْثُ يَسْتَحِيل أَن يَنْفَكّ عَنهُ وَالنَّظَر بِمَعْنى الْبَحْث وَهُوَ أَعم من الْقيَاس، وَنظر فِيهِ: تفكَّر كَقَوْلِه تَعَالَى: أولم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض{ وَخُص بِالتَّأَمُّلِ فِي قَوْله تَعَالَى: }أَفلا ينظرُونَ إِلَى الْإِبِل كَيفَ خُلقت{

-
-
-
يبدو أن دي سوسير لم يأت من اعتباط، هذا المصطلح الذي كثيرا ما اشتهر به، ولكن ههنا استنادا إلى قانون العلوم الثابت وتاريخها: إن كل نظرية تقوم إنما تأتي على أنقاض ومخلّفات ومثالب ما كان قبلها، كان دي سوسير تاريخيا مقارنا بكل ما تعنيه الكلمة، وكان يشتغل على الاشتقاق، وبدأ تعلم السنسكريتية التي أولع بها لسانيو ذلكم العصر، قرأ سوسير[1] كتاب النحو لفرانز بوب Franz Bopp[2] وتأثر به حتى أصبح أستاذه الأولَّ باعترافه، ومن ثم انضم إلى كرسي فقه اللغة في جامعة لايبزيغ في سويسرا، وكتب أطروحته الشهيرة: بحث في النظام الأصلي للصوائت في اللغات الهندية الأوروبية، التي جعلته مشهورا.
ونحن نسرد بعضا من محطات سوسير العلمية لم تكن الغاية البتة أن نعرف دي سوسير منعزلا عن تاريخ أفكاره التي هي مطروحة في المحاضرات رغم اللَّغط الكبير حولها، والذي قد يكون صادقا جدا[3]، من الناحية العلمية ينبغي السير وفقا لمسار العلم، لقد عرضت عديد المخطوطات الأصلية منذ 1990 إلى يومنا هذا، وقد أثبتت هذه المخطوطات هلهلة كثير من الأفكار التي وردت في المحاضرات والتي سنذكرها في آخر المحاضرة.
الحديث عن دي سوسير لسانيا، أو عن محاضرات في اللسانيات العامة الذي كتبه طالبا دي سوسير أبير سيشهاي وشارل بالي، أو عن كل ما ينتسب إلى ما يسمى مصطلح البنيوية الذي لم يذكره دي سوسير البتة في مخطوطاته، ولا أشار إلى شيء من اشتقاقاته أو جذوره اللغوية[4] هو حديث محفوف بالمخاطر من الناحية العلمية، لسبب أنه انتقال جذري من مرحلة معرفية إلى أخرى مناقضة تماما.
[1] ينظر: السيرة الذاتية العلمية لفرديناند دي سوسير في كتاب فهم فرديناند دي سوسير وفقا لمخطوطاته، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، ص 275.
[2] فرانز بوب 1867-1791) Franz Boppأشهر علماء النحو المقارن واللسانيات عالم لغوي ألماني( ّ ؛ تلقى دروسه الأولى في التاريخية، يعد من ألمانيا ثم انتقل إلى فرنسا وعمره ) 21سنة ليتتلمذ على يد المستشرق سلفستر دي ساسي Sylvestre de Sacy مابين ( سنة 1816-1812)؛ تعلم لضرورات عدة لغات منها السنسكريتية والفارسية والهندية والعربية والعبرية والجرمانية والإغريقية واللاتينية والألبانية والسلافية والأرمينية واللتوانية وذلك لضرورات النحو المقارن وما يتطلبه من معرفة واسعة باللغات، حاز على الدكتوراه في فرنسا باريس عن بحثه نظام التصريف في اللغة السنسكريتية ومقارنته بالأنظمة التصريفية في اللغات الإغريقية واللاتينية والفرنسية والجرمانية؛ هذه الرسالة أكسبته شهرة كبيرة حيث أصبح يطلق عليه المؤسس الحقيقي للنحو المقارن، في سنة 1816 سافر بوب إلى لندن ومكث بها حتى 1820، وبعدها رجع إلى ألماني حيث وكلّف بالتدريس في جامعة برلين، وعيّن أستاذ كرسي في اللغة السنسكريتية، في سنة 1833 ظهر مؤلَّفه: النحو المقارن للسنسكريتية والزندية والإغريقية واللاتينة واللتوانية والقوطية والجرمانية، ولم يكتمل هذا النحو إلا في سنة 1852 بعدما أضاف له الكلتية والألبانية والسلافية القديمة وعلى غرار معاصريه فقد عد بوب اللغة كائنا حيا مانحا إياها تارة المعنى الخاص بالبنية وتارة أخرى المعنى الذي يحمله في العلوم الطبيعية، أحمد مومن: اللسانيات النشأة والتطور، ص 89.
[3] بعد المحاضرات التي كتبها تلميذا دي سوسير، وهما ألبير سيشهاي وشارل بالي، ظهرت عديد المخطوطات الأصلية لدي سوسير، ونقضت كثيرا من أفكار المحاضرات ومن ذلك ما نشر ابتداء من 1990، نعرف أن الفاصل الزمني طويل جدا بين كتابة المحاضرات وبين هذه المخطوطات، إلا أن الأبحاث في المجال لا تزال قائمة بكثير من الاهتمام، عربيا؛ يعدُّ الأستاذ الجزائري مختار زواوي صاحب الفضل في ترجمة السوسيرية الجديدة في أسفار شتى، والتي نقض غير قليل من الأفكار القديمة.
[4] نفترض أنه بالرغم من عدم تطرق دي سوسير إلى مصطلح البنية أو البنيوية حرفيا في مخطوطاتها أو ما يجري مجراهما،أنّه قد تطرق إلى الدلالة نفسها من خلال مصطلحات أخرى من مثل النظام، أو الشكل وغيرهما،

-
يعرض الكتاب للأفكار المغلوطة في المحاضرات التي نشرها كل من ألبير سيشهاي وشارل بالي، ويصحح تلكم الأفكار انطلاقا من المخطوطات التي اكشفت سنة 1996 في حديقة بيت دي سوسير.
-
المحاضرة الثالثة: حلقة موسكو
يبدو بداية؛ أنَّ كثيرا من الذين انتسبوا إلى المدرسة الروسية اللسانية (حلقة موسكو) كانوا تحت لواء الشكلانية[1] الروسية[2]، ومن ثم انتقلوا إلى جانب اللسانيات، انظر مثلا جاكبسون الذي انتقل من الشكلانية إلى البنيوية من حيث المبادئ، ومن ثم إلى الوظيفية (حلقة براغ) التي اشتهر فيها.
أكثر ما يرد في هذا المجال من أعلام هو رومان جاكبسون (1896/ 1982)، ثمَّ ثلّة أخرى من الذين اشتهروا في الأدب والفلكلور وغيرهما، ومن ذلك فلاديمير بروب Vladimir prop وبوريس توماشيفسكي Boris Timachevsk، والشاعر الروسي الكبير فلاديمير ماياكوفسكي (1884/ 1955).
تمثّل حلقة موسكو استنادا لعلاقتها المعرفية الوطيدة بالشكلانية الروسية، انتقالا جذريا من الاهتمام باللغات والأدب السلافي القديم حُكماً إلى ما قام في المدرسة التاريخية السلافية من اهتمامات باللغات والآداب القديمة، والتي كانت تمثل أشهر مدرسة في أوروبا الشرقية[3]، والتي كان جاكبسون من أعلامها، كمقابل للمدرسة التاريخية الغربية التي اشتهر فيها علماء كثيرون من مثل فرانز بوب، وماكس مولر، وصولا إلى دي سوسير الذي قال في مخطوطاته (لقد صرت لا أقرأ إلاَّ لهؤلاء) والتي كان شغلها الشاغل إعادة بناء الهندوأوروبية.
في الأدب اهتمَّ منظرو الشكلانية وبعدهم حلقة موسكو بالانتقال من المناهج السياقية في الاهتمام بالنصوص (التاريخي والاجتماعي والنفسي) إلى اعتبار الأدب شكلا مستقلا من أشكال التعبير[4]، وهو نفسه ما ستجده عند جاكبسون تحت اصطلاح الأدبية، الظاهر أن الأمر يسير في خطّ يوازي مسار البنيوية اللسانية أو الأدبية، ذلك أن ما قاله البنيويون الوصفيون.
[1] مثل البنيوية تماما، ظهرت الشكلانية ثورة على المناهج التاريخية، والنفسية، والاجتماعية، واعتبرت الأدب شكلا مستقلا من أشكال التعبير. في دعوة إلى استقلالية الأدب عن السياقات الخارجية، ومن ثم برز جاكبسون أحد أشهر الشكلانيين، وسطّر للأدب مبادئ من قبل الأدبية التي تسحب الأدب مما يعلق به من الدوافع الذاتية والسياقات الخارجية، سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط 1، 1985، ص 32.
يبدو هذا تلميحا كبيرا لخصائص تلكم المرحلة، والتي عنوانها الأبرز هو البنيوية، ذلك أنّا سنجد فيما بعد جاكوبسون بنيويا وظيفيا، رغم كثيرا من النقد الذي قدّمه لسوسير في كتابه الاتجاهات الأساسية في علم اللغة.
[2] يؤكّد هذا التاريخ الوحد لظهور النظريتين، وهو 1915م، ويبدو أنه رغم انحسار حلقة موسكو التي هي امتداد لمدرسة تاريخية عريقة جدا كان قد اشتُغل فيها على اللغات السلافية إلاَّ أنّ المبادئ اللسانية التي دعت لها، والتي كانت بنيوية أيضا قد سطّرت بالبند العريض فيما بعد في المدرسة التشيكية الوظيفية (حلقة براغ) والتي انتشرت في أوروبا عامة.
وإن قولنا بالمدرسة اللغوية التاريخية العريقة لا يعني استمرار تلكم المبادئ، ذلك أن كلا من الوظيفيين وأعلام موسكو قد مثلوا تحديدا ذلك الجدار الفاصل بين لسانيتين تاريخية وصفية، مثلما فعل دي سوسير تحديدا، مع تجاوز مفهوم الإلغاء الذي شاع في محاضرات سيشهاي وبالي.
[3] باعتراف محمد عناني في معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، كانت المدرسة الأوروبية الشرقية إن في الأدب أو اللغة منبوذة قولا واحدا، لسبب تجاهل نتاجها المعرفي، ويبدو أن الأمر شائع حتى لدى الأساتذة والطلبة، الذين اشتهرت لديهم قوة المدرسة الغربية، وتحديدا الألمانية، من المؤكد أن هذا تابع أيضا لثنائية السامي والآري التي رأيناها في لغات الفردوس لموريس أولندر، ومن ثم محاولة الانتصار إثنوغرافيا للفرع الآري الذي قوامه الحضارة والمدنية واللغة التي تمثلهما من حيث التطور.
[4] أكثر من وفّق في شرح العبارة هو محمد عناني في معجمه سابق الذكر، ذلك أنّه ابتدأ الحديث فيها (الشكل، forme مقابلا بين
-
المدرسة الوظيفية: حلقة براغ
الظاهر أن الوظيفية بنيوية أيضا، كيف ذلك؟ شكليا؛ تبنت حلقة براغ بزعامة فيليم ماتيسيوس مبادئ دي سوسير حرفيا، على الرغم من امتداد يد أعلام هذه المدرسة في التاريخ، كيف ذلك، تمتد كل من براغ وموسكو التي رأسها جاكبسون إلى المدرسة السلافية العريقة في كل من اللغة والأدب، ويبدو أننا حينما نتحدث عن هذا الامتداد وجب أن نشير إلى تلكم العلاقة الوطيدة التي صنعها الوظيفيون ابتداء من جاكبسون بين اللسانيات والأدب عموما، والشعر بالخصوص، ولذلك ستجد أن جاكبسون كثيرا ما انتقد شيئا من تقنيات البنيوية، ويبدو السبب كامنا في درايته التامة بميدان تطبيق تلكم المبادئ، وبعدُ سنصل إلى أن الوظيفية تفرعت لتكون مع هاليداي أقدر المناهج على مقاربة النصوص الأدبية الشعرية والنثرية فيما سمي بالنقد اللساني خلاف البنيوية والتوليدية التحويلية ما تشومسكي.
لا شكّ أن أكثر الذي جدّ في حلقة براغ، هو اصطلاح الوظيفة، الذي جاء تابعا للبنيوية، ما يكون بنيويا ينبغي أن يكون وظيفيا داخل النصوص اللغوية والأدبية، ذلك أن الوظيفيين يقاربون من داخل النص، ومن ثم يفككونه إلى أصغر وحداته، الحق أننا ينبغي أن نعود إلى مبدأ دي سوسير القائل باستبعاد كل ما هو خارج عن نظام اللسان، ذلك أن أعلام الوظيفية قد أتوا على ذكر المستويات اللسانية (صوت، صرف، تركيب) ومن ثم قرنوها بالاصطلاح الأبرز لديهم، قبل ذلك آمن االوظيفيون بما آمن به دي سوسير من أنَّ اللغة شكل وليست مادة، غير أنهم حينما أسسوا لما يسمى وظيفية النّصوص، ومن ثم وظيفية الوحدات اللغوية ضمنه والتي تندرج في ما يسمى المستويات اللغوية.
يبدو واضحا أن وظيفية النصوص تؤدي إلى وظيفية الأصوات، والحق أن هذا شيء يخرج مما قال عنه دي سوسير عرضي وغير جوهري، ويبدو الشيء العرضي بالنسبة للسانيات هو الاهتمام بالجانب المادّي الفزيائي والفزيولوجي من الصوت، الحق أن الوظيفية تهتم بوظيفة الصوت داخل الكلمة، ومن ثم وظيفة الكلمة داخل التركيب، وبعد وظيفة التركيب نفسه التي هي الإفادة في التراث اللغوي، ولذا أسس الوظيفيون لما يسمى الفونولوجيا، أو علم الأصوات الوظيفي، واهتموا بوظيفة الصوت التي يؤديها دون ما سمي بصفة الصوت، تلكم التي تتحدث عن سمات خارجية إنما يكتسبها من مواطن غير لسانية اشتغلت عليها الصوتيات التاريخية، ويبدو الوظيفيون في نظرتهم لكل ما هو تاريخي أقلّ تزمتا من الناحية العلمية، ذلك أنهم اشتغلوا على النص باعتباره علامة مستخدمة في سياق يحمل وظيفة جمالية، والحق إن الوظيفيين بعد ذلك هم أكثر من ارتقت على يدهم مسائل لسانيات النص والخطاب، خلاف النموذجين البنيوي والتوليدي التحويلي[1]
لا يمكننا الانتقال إلى تحديد مفاهيم النظرية و/أو المدرسة الوظيفية بكل فروعها، إن في اللسانيات، أو النقد الأدبي إلا من خلال محاولة تقديم مساءلة معرفية لبنيوية دي سوسير، كذلك للبنيوية في النقد الأدبي، على اعتبار سير اللسانيات والنقد في خطين متوازيين، انتهيا إلى الالتقاء عند النص الأدبي فيما يسمى النقد اللساني، ولسانيات النص، ثم التداولية فيما بعد، بل إننا سنجد ما يسمى اللسانيات المعرفية من جهة، ومقابله علم السرد المعرفي، وإننا لا نتحدث البتة بطريقة الذي ينظر من فوق، على اعتبار أن البنيوية قد جاءت وانتقدت وبانت كل معايبها، ولكننا سنتحدث من منظور اللسانيين والنقاد الذين أتوا بعد دي سوسير بزمن وجيز جدا ، نلاحظ مباشرة أن جاكبسون وهو من أعلام اللسانيات الوظيفية، وعلى الرغم من تبنيه لبنيوية دي سوسير في حلقة موسكو التي أسسسها حوالي 1917م، إلا أنّه انفتح كثيرا على ما يسمى الشعرية، والوظائف اللغوية التي تؤدّي إلى النص كوحدة لاحقة أكبر من الجملة، أو الخطاب إذا استحضرنا الاختلاف بين هذين المصطلحين.
انطلق الوظيفيون من أفكار دي سوسير، اللغة شكل وليست مادة وخاصة في حلقة موسكو، دي سوسير يؤمن بالرمزية، بالعلامات، والسيميااء، ثم العلاقات الاستبادلية والتركيبية، ومنه أتوا بما يسمى التقطيع والاستبدال في كل الوحدات المكونة للجملة، صوت، صرف، تركيب، دلالة، وليس فقط في التركيب.
جاءت الوظيفية بالارتكاز على أفكار دي سوسير، لكنها لم ترفض المنهج التاريخي في دراسة الأصوات بالخصوص، على اعتبار التطور الذي يحدث في الأصوات، وأطلقت مصطلحات من مثل: الصوتيات التزامنية، أي التاريخية، وبعد اهتمت بالمصطلح المركز فيها، وهو الوظيفة، أي وظيفة اللغة، وذكر الوظيفيون أن اللغة نظام، ولكن هذا النظام يستند إلى شيء من التاريخية مثلا، ثم ذكروا أن اللغة تحمل وظائف، ووظائف اللغة تتعلق بمستوياتها، ومن ثم وظيفة الصوت، ووظيفة الكلمة، ووظيفة التركيب، ولقد انطلق الوظيفيون من الكلام الخام، المكتوب في مدوناتهم.
إذا حاولنا المزج بين النقد واللسانيات، فإننا سنجد اهتمام الوظيفيين بجمالية اللغة، وهي الوظيفة الأولى التي يأتي من أجلها الأدب، وتستعمل اللغة، ومنه أتى جاكبسون بالشعرية، وأدبية الأدب، وأتت الشكلانية الروسية، وكذا البنيوية التكوينية
-
-
-
المدرسة الغلوسيماتية: النّسقية لويس هلمسليف
نشأت الغلوسيماتية على أفكار دي سوسير، ويبدو أنها المحقق الفعلي للبنيوية حسب المصادر المتعلقة بالمجال، والخاصة باللّسانيين أنفسهم، من مثل يلمسليف مؤسسها الفعل، طبعا بعد أن حادت الوظيفية والشكلالنية الروسية، وحاولت الانفتاح على شيء من السيميائية الاجتماعية، والديناميكيات الاجتمماعية للتفاعل الثقافي، وللمعرفة الثقافية، وغاية التواصل، وسياقات صناعة الأدب، خصوصا أدبية الأدب، والشعرية لدى جاكبسون والشكلانيين، واللغة الخصة بالخطاب الي ل توجد في أية معرفة أخرى، والأيديولوجيا، وتعدد الأصوات أو الرواية البوليفونية، وتعدد الألسن، والحوارية والسّجل النصي، وأن الأدب شكل مميز من أشكال الخطاب، والثنائية الخاصة بالأدب لدى باختين: الفردي والمجتمعي، الدليل والمدلول، الحوار الداخلي والخارجي، ويفترض الأمر أن كل مصطلح يقابله مصطلح آخر يكون نقيضه.
ركز الغلوسيماتيون على االبنية الداخلية للسان ما من غير الاهتمام بالتأثيرات الخارجية.
ينظر إلى اللسان في هذه المدرسة كبنية مستقلة بذاته، يحمل نظاما خاصا يسير وفقه.
دعا الغلوسيماتيون إلى دراسة اللغة دراسة معيارية صورية شكلية لا تنظر إلى السياقات والمقاصد.
اللسان صورة وليس مادّة.
الاهتمام بالمضمون كوجه ثان للعلامة اللسانية، اعتبر دي سوسير اللسان تابعا للسيمياء، وهو بذلك شكل لا مادّة، يسير مسار الاصطلاحية. وجاء الغلوسيماتيون للاهتمام بمضمون العلامة أي مدلولها كوجه ثان تهتم به اللسانيات.
اللسان نظام من النظم السيميائية العلاماتية، في كل منها اختلاف بين الصورة والمادّة.
عمد الغلوسيماتيون إلى مناقشة المضمون، بعد أن حصرت البنيوية الأمريكية نفسها في الشكل، أي الصورة.
الخلفية النفسية لللسانيات االغلوسيماتية ترتكز على الاستنباط، أي الفهم، وهي ضد ما جاء به السلوكيون، وبلومفيلد بالخصوص، المتمثل في التركيز على التجريب، والملاحظة والاستقراء.
المرحلة التجريبية: الإنسان صفحة بيضاء، ويتفق العقليون مع الفلسفة التجريبية، ويتعلم كل شيء عن طريق الحواس، جون لوك، سبينوزا، لايبنتز، وديكارت، يختلف تشومسكي عن هذا في أن الإنسان يولد وهو مزود بنظام لغوي،
دافيد هيوم: المعرفة تنقسم إلى قسمين: الوجود الحقيقي الذي يمكن أن نتحقق منه عن طريق الاختبارية وهي معارف مسبقة، أو الملموس الحسي الحديد أقوى من الخشب، النار محرقة، وثم العلاقات بين الأفكار، رياضية مثلا، وتستند إلى مبادئ الصدق ولكذب، الثلج أبيض الطالب في المدرج
انفتحت الغلوسيماتية على العلوم الدقيقة، وهو مبدأ ظهر لدى السلوكيين، في تجاربهم بخصوص اللغة واكتسابها، ثم لسبب أن أمر الانفتاح مقرون بسنة العلم التراكمية التراتبية، وكذا بالتكامل المعرفي والمصطلحي بين العلوم التجريبية، والعلوم الإنسانية، ومن ذلك التكامل، استعارةُ الأجهزة الاصطلاحية كليا، أو جزئيا، انظر استعارة البنية، والنظام، من الرياضيات والفيزياء مثلا.
اعتمد الغلوسيماتية منهجية العلوم الدقيقة، متأثرة بما وصلت إليه الابستيمولوجيا عموما في تلكم العلوم.
استبعاد الميتافيزيقا من خلال التحليل المنطقي للغة.
غلبة النزعة الذاتية على التأملات الفلسفية للغة. هذه التأملات في أغلب الأحيان ذاتية.
الغلوسيمية، المقصود بها اللسانيات، هذا ما قاله يلمسليف، ولقد اختار المصطلح لإبعاد بعض الممارسات غير اللسانيىة عن اللسانيات، والتي اعتبرت خطأ من صميمها، ولذخا أطلق ما يسمى اللسانيات اللسانية، أي اللسانيات التي تركز على اللسان فقط، وليس على ما يحيط به.
الاستعانة باللغة الرياضية الرمزية، الاستعانة بالرموز الرياضية، والمنهج الرياضياتي الذي يقوم على المنطق، نحو منطقي، وعلم دلالة صوري بصيغ رمزية مجردة، ذلك أن الدلالة الوضعية التي يؤمن بها البنيويون تنقسم إلى ما هو لفظي وغير لفظي، قبسا من لدن الرياضيات والفيزياء، لسبب أن منظورهم يرتكز على نقد كون اللغة الطبيعية موضوع العلم، لأنها لا تستقل عن الخلفيات والحدس.
اقترح يلمسلف هذا الجبر المنطقي، أو النحو الجبري المنطقي، أو اللسان الجبري المنطقي، لفصل اللسانيات الحديثة التي موضوعها اللسان في ذاته ولأجل ذاته عن اللسانيات التقليدية، في صورة تجريدية منطقية، تنفصل تماما عن الذاتية والتأمل، والأحكام الميتافيزيقية المتسامية.

-
-
-
المدرسة السياقية: كتاب نظرية المعنى لجون روبرت فيرث
علاقة اللغة بالثقافة: يقول العربي حينما يعبر عن شعور صادق يختلج صدره: إنّ هذا يثلج صدري، بينما يقول الفرنسي الذي يعيش في بيئة باردة إنّ هذا يدفئ صدري، ولقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: من بدا جفا: أي إن من كان يعيش في البادية كان طبعه الجفاء، إن هذا يعد في العلم من تأثير الثقافة والبيئة على الإنسان، من حيث اللغة كما من حيث الجسد
جون روبرت فيرث، هاليداي، ماكينتوش، ارتبطت السياقية بتسييق الوحدة اللغوية، ووضعها في السياق، بالاستعمال في اللغة، واعتقد أنه نفس ماذهبت إليه التداولية فيما بعد، ولكن بشكل موسع، إذ أنها اعتمدت اللغة في الاستعمال، وتوسعت إلى المتلقي، ولم تنحصر في المتكلم، ويحتكم السياق إلى مبادئ التجاور والتلازم الدلالي، بين الوحدات اللغوية، المشكّلة للنظم، ثم التلازم بين الدلالة الوضعية والدلالة الاستعمالية، ثم التلازم الدلالي بين وحدات النظم، كما في القرآن الكريم مثلا.
يقسم السياق إلى أربعة أقسام هي: السياق اللغوي، السياق العاطفي، سياق الموقف، السياق الثقافي. أم السياق اللغوي فتتعلق اللفظة فيه بما يسبقها أو يلحقها، كأن نقول ماء البحر، وماء العين، وهما ليسا سواء، ثم كلمة يد حينما ترد في سياقات متعددة، منها يدُ الفاس مقبضها، ويد الدّهر، وفلان يده طويلة، ويد الطائر جناحه، ويد الساعة وفي الحديث إنّ بين يدي الساعة أهوالا. ويرتبط السياق اللغوي، بمستوى الوضع والاستعمال، إننا إذا أخذنا جذرا لغويا من المعاجم اللغوية التراثية، سنجد أنه مستعمل لمعاني عدّة، ولكنها تشترك كلها في المعنى العام الذي دلّته المفردة حين ارتباطها بالأصل الحسي أوّل اللغة، انظر الجذر اللغوي: نسج: مرتبط بالثياب حاكه، ونسج الكلام صاغه، ونسج الكتاب نسخه، أو كتبه، ونسج الشعر نظمه، ونسجت الريح الرمال، تركت عليها أثرا، ونسج على منواله، حذا حذوه، ونسج الزّور لفّقه، ونسج الغيث النبات، أنبته حتى التفَّ.
السياق العاطفي: مرتبط بالانفعال، ويحدد درجة القوة والضعف فيهما، كأن يقول أحد يكره، والآخر يبغض، أو كقول الله تعالى في القرآن الكريم: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (، وبعدها قوله تعالى: إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزّهم أزا، رغم الاشتراك في أصل المعنى.
أمّا سياق الموقف فهو السياق الخارجي الذي يمكن أن تقع فيه الكلمة، وهو متعلق بالحال التي يكونها موضوع الكلام: لقد قال علي بن أبي طالب للخوارج: كلمة حق أريد بها باطل حينما ذكروا له قولة: ما الحكم إلاّ لله، كما في قوله تعالى إن الحكم إلاّ لله، وهو موقف لا يتطلّب هذه الكلمة، ذلك أنها مخالفة للقصد، والموقف.
السياق الثقافي: يقتضي تحديد الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والتاريخية لمجتمع ما، سنجد في القرآن الكريم أمثلة عديدة على هذا من بينها آية فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون، وسنجد أيضا عديد المفردات في اللغة تتطلب مع التطور التاريخي الذي حصل فيها لمعرفة معناها، ثم سنجد أن المعنى المجازي قد فرض نفسه عوض المعنى الحرفي، وأنه لا توجد مسافة فاصلة تسمى مشابهة بين الحقيقي والمجازي، لسبب انحصار الحقيقي وتهافته، بل وموته أيضا.
السياق:
هو الظرف المحيط باللغة، أو السياق الاجتماعي، والتاريخي، والنفسي، الذي يمكن أن يلتصق بلغة ما، استنادا إلى أن اللغة محكومة بمراجع صناعية حضارية، وبيئية وثقافية، وحتى أيديولوجية، وهي محكومة أيضا بنظام العالم، أي ترتيب الأشياء في العالم الخارجي، قال فنغنشتاين: إن حدود لغتي هي حدود عالمي، وقال لوران ساغار: إن اللغة هي لهجة تنعم بقوة برية هائلة، ويتطلّب فهمها المرور به، انظر في القرآن الكريم: فإنّ للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحاب فلا يستعجلون، ثم انظر كذلك شهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط، وكذلك قولة علي: كلمة حق أريد بها باطل تلكم التي قالها للخوارج ردا على قولهم: لا حكم إلا حكم الله، وهو مثل ما ورد في القرآن الكريم، إن الحكم إلاّ لله.
يعني السياق التتابع بين الأشياء، وهو في المعاجم الغوية التراثية وارد بهذه الصيغة، وهو التساوق، ولا تساق الأشياء إلاّ لغاية، وكذلكم الأمر في اللغة، أو في القرآن مثلا، ذلك أنّه أكثر نص محكوم بالتلازم الدلالي، على اعتبار أنه يخضع لقانون استدعاءات ما سبق لما يلحق، من حيث الدلالة والتركيب، أو التأليف مثلما اصطلح عليه النحاة القدامى، ذلك أن حسن التأليف، أو السبك والحبك من حسن الاختيار باصطلاح اللسانيات الحديثة، ومن ثم وجب أن نستحضر أن الوحدات اللغوية إنما هي مكتسبة لدلالات متعددة خارج السياق، منها دلالة معجمية حسّية، ودلالة انفعالية، وأخرى اجتماعية، ومن ثم اعتبار أن الكلمة إنما تأخذ معناها من السياق الذي ترد فيه، ولقد تخضع هذه العلائق لكثير من أمور الدلالة، منها قوانين الدلالة المتعلقة بالتطور، أي الاتساع والتخصيص، ثم الارتقاء والانحطاط، مثلما تخضع لمنهاج اللغة في مقابلة منتجات الحضارة، ومن ثم الانتقال من الحسي المعجمي إلى المجازي المتسع، والذي لا يخلو من المشابهة مع الأول، ذلك أن اللغة لا تصنع من المهمل المتروك، إنما من المستعمل الموضوع.
يُحتكم في السياق إلى مستويين هما: الوضع والاستعمال، ذلك أن تتطور دائما مثلها في ذلك مثل الكائن الحي، ودلالة الوضع ليست تلكم هي دلالة الاستعمال دائما.
الحديث عن المدرسة السياقية عند فيرث، أو عن السياق عموما، هو بالدرجة الأولى تَكرار لكثير من المفاهيم التي أقرها التراث اللغوي العربي في ذلكم المجال، ابتداء من لدن الأصوليين، ثم النحاة المتقدمون من مثل سيبويه والخليل، وابن جني، ثم لدى البلاغيين الذين اهتموا بسياق الحال، أو المقام مثلما هو عند فيرث، والذين تلخصهم العبارة الشهيرة لكل مقام مقال، وجب بُداءة حين الحديث عن السياق أن نقسّمه قسمين، سائرين في ذلك مسار العلماء في المجال، أحدهما داخلي، يسمّ السياق اللغوي، اقترانا باللغة من حيث مستوياتها، والآخر خارجي مقامي، أو ظرف محيط باللغة، يحضرنا ههنا صنيع اللسانيات التاريخية مع النص الأدبي من حيث سياقاته التاريخية، والاجتماعية والنفسية، والحق أنهما ليسا سواء، ذلك أن صنيع الفيلولوجيا متسع جدا، ويسير مسارا غير لغوي، إنما الأمر ههنا منحصر في اللغة، وفي الدلالة بالخصوص، والحديث عن الدلالة هو حديث أولا عن اللغة، وعلاقتها بالدلالة، من حيثُ الصوتُ، والمعجم، والصّرف، والتركيبُ، ثم ذكرٌ لأنواع الدلالة مثلما سطّرها العلماء، أي دلالة سياقية، مقامية، ودلالة اجتماعية، وهو ما قصده فيرث من الوظيفة الاجتماعية للغة،
السياق ومستويات اللغة:
تتشكل اللغة من أصوات ومعجم وتراكيب، وتقرن بعد ذلك كل هذه المستويات بمستوى الدلالة، ذلك أنها محققة فاعلة فيها، من الصوت وحتى التركيب، أو الجملة، والحق أن الأصوات إنما تؤثر في المعنى بحسب نظرية ابن فارس، وبحسب النظرية الثنائية في اللغة، ومن ثم مجيء الحرف الثالث لتخصيص الدلالة، أو لتوسيعها، لتتكد من هذا انظر خضم للرطب، وقضم لليابس، ثم انظر قطّ، وقطب، وقطع، وقطف، ولقد تكون الزيادة بحسب الأول، أو القافية، ولا يعتدّ السياق بالمستوى الصوتي من الكلم، وإنما يعتد بالمستوى النحوي، والمعجمي، على الرغم من أن الوحدات المعجمية تحمل دلالة خارج سياقها، انظر مثلا قول البصريين بالزيادة في آية لا أقسم بهذا البلد، ثم قول الكوفيين بالصلة فيه.
يعتدُّ في السياق من ناحية الدلالة بالمعجم، ذلك أن النظم فيها محكوم بالعلاقات الدلالية التي ينبغي أن تتوفر في التراكيب، بين كل وحدة لغوية وأخرى، وإلا فنحن أمام جمل صحيحة نحويا وخاطئة دلاليا، مثل التي عند تشومسكي: الكلمات الخضراء عديمة اللون تنام غاضبة، أو مثل التي عند سيبويه في باب الاستقامة من الكلام والإحالة حينما قال:
فمنه مستقيم حسنٌ، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب.
فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتُك أمْسِ وسآتيك غداً، وسآتيك أمس.
وأما المستقيم الكذب فقولك: حَمَلتُ الجبلَ، وشربت ماء البحر " ونحوه.
وأما المستقيم القبيح فأنْ تضع اللفظ في غير موضعه، نحو قولك: قد زيداً رأيت، وكي زيداً يأتيك، وأشباه هذا.
وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمسٍ.

-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-


