مدرسة جنيف ( فرديناند دي سوسير)
يبدو أن دي سوسير لم يأت من اعتباط، هذا المصطلح الذي كثيرا ما اشتهر به، ولكن ههنا استنادا إلى قانون العلوم الثابت وتاريخها: إن كل نظرية تقوم إنما تأتي على أنقاض ومخلّفات ومثالب ما كان قبلها، كان دي سوسير تاريخيا مقارنا بكل ما تعنيه الكلمة، وكان يشتغل على الاشتقاق، وبدأ تعلم السنسكريتية التي أولع بها لسانيو ذلكم العصر، قرأ سوسير[1] كتاب النحو لفرانز بوب Franz Bopp[2] وتأثر به حتى أصبح أستاذه الأولَّ باعترافه، ومن ثم انضم إلى كرسي فقه اللغة في جامعة لايبزيغ في سويسرا، وكتب أطروحته الشهيرة: بحث في النظام الأصلي للصوائت في اللغات الهندية الأوروبية، التي جعلته مشهورا.
ونحن نسرد بعضا من محطات سوسير العلمية لم تكن الغاية البتة أن نعرف دي سوسير منعزلا عن تاريخ أفكاره التي هي مطروحة في المحاضرات رغم اللَّغط الكبير حولها، والذي قد يكون صادقا جدا[3]، من الناحية العلمية ينبغي السير وفقا لمسار العلم، لقد عرضت عديد المخطوطات الأصلية منذ 1990 إلى يومنا هذا، وقد أثبتت هذه المخطوطات هلهلة كثير من الأفكار التي وردت في المحاضرات والتي سنذكرها في آخر المحاضرة.
الحديث عن دي سوسير لسانيا، أو عن محاضرات في اللسانيات العامة الذي كتبه طالبا دي سوسير أبير سيشهاي وشارل بالي، أو عن كل ما ينتسب إلى ما يسمى مصطلح البنيوية الذي لم يذكره دي سوسير البتة في مخطوطاته، ولا أشار إلى شيء من اشتقاقاته أو جذوره اللغوية[4] هو حديث محفوف بالمخاطر من الناحية العلمية، لسبب أنه انتقال جذري من مرحلة معرفية إلى أخرى مناقضة تماما.
[1] ينظر: السيرة الذاتية العلمية لفرديناند دي سوسير في كتاب فهم فرديناند دي سوسير وفقا لمخطوطاته، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، ص 275.
[2] فرانز بوب 1867-1791) Franz Boppأشهر علماء النحو المقارن واللسانيات عالم لغوي ألماني( ّ ؛ تلقى دروسه الأولى في التاريخية، يعد من ألمانيا ثم انتقل إلى فرنسا وعمره ) 21سنة ليتتلمذ على يد المستشرق سلفستر دي ساسي Sylvestre de Sacy مابين ( سنة 1816-1812)؛ تعلم لضرورات عدة لغات منها السنسكريتية والفارسية والهندية والعربية والعبرية والجرمانية والإغريقية واللاتينية والألبانية والسلافية والأرمينية واللتوانية وذلك لضرورات النحو المقارن وما يتطلبه من معرفة واسعة باللغات، حاز على الدكتوراه في فرنسا باريس عن بحثه نظام التصريف في اللغة السنسكريتية ومقارنته بالأنظمة التصريفية في اللغات الإغريقية واللاتينية والفرنسية والجرمانية؛ هذه الرسالة أكسبته شهرة كبيرة حيث أصبح يطلق عليه المؤسس الحقيقي للنحو المقارن، في سنة 1816 سافر بوب إلى لندن ومكث بها حتى 1820، وبعدها رجع إلى ألماني حيث وكلّف بالتدريس في جامعة برلين، وعيّن أستاذ كرسي في اللغة السنسكريتية، في سنة 1833 ظهر مؤلَّفه: النحو المقارن للسنسكريتية والزندية والإغريقية واللاتينة واللتوانية والقوطية والجرمانية، ولم يكتمل هذا النحو إلا في سنة 1852 بعدما أضاف له الكلتية والألبانية والسلافية القديمة وعلى غرار معاصريه فقد عد بوب اللغة كائنا حيا مانحا إياها تارة المعنى الخاص بالبنية وتارة أخرى المعنى الذي يحمله في العلوم الطبيعية، أحمد مومن: اللسانيات النشأة والتطور، ص 89.
[3] بعد المحاضرات التي كتبها تلميذا دي سوسير، وهما ألبير سيشهاي وشارل بالي، ظهرت عديد المخطوطات الأصلية لدي سوسير، ونقضت كثيرا من أفكار المحاضرات ومن ذلك ما نشر ابتداء من 1990، نعرف أن الفاصل الزمني طويل جدا بين كتابة المحاضرات وبين هذه المخطوطات، إلا أن الأبحاث في المجال لا تزال قائمة بكثير من الاهتمام، عربيا؛ يعدُّ الأستاذ الجزائري مختار زواوي صاحب الفضل في ترجمة السوسيرية الجديدة في أسفار شتى، والتي نقض غير قليل من الأفكار القديمة.
[4] نفترض أنه بالرغم من عدم تطرق دي سوسير إلى مصطلح البنية أو البنيوية حرفيا في مخطوطاتها أو ما يجري مجراهما،أنّه قد تطرق إلى الدلالة نفسها من خلال مصطلحات أخرى من مثل النظام، أو الشكل وغيرهما،
