الضبط الاصطلاحي للمقياس
مفهوم علم الدلالة:
لقد ارتبط البحث في الدلالة عند العرب قديما بالقرآن الكريم والعلوم الدينية التي تمحورت حوله لفهم هذا النص المقدس، انطلاقا من هذا الارتباط الذي قدم إسهامات كثيرة وأصيلة في هذا الميدان، وذلك جلّي في كتب اللغة والمصنفات الدينية والنقدية والبلاغية التي عالجت الدلالة وإشكاليات المعنى من زوايا مختلفة، وكان للعرب السبق في كثير من هذه المباحث التي اتسمت بالجِدّة والتميز، رغم إقفال التاريخ العربي لهذه الجهود فكان اهتمام العرب "بالعلامة" التي تقابل مفهوم الدلالة في تراثنا العربي منذ وقت مبكر، وقد أكد "جورج مونان" على ضرورة تحديد المصطلح وتأطيره بالدلالة اللغوية؛ لأن " الدلالة " دخلت في مجالات عديدة فيها عموم قد يجعل الباحث. يحمّلها على اللغة.
وتعود نشأة الدلالة إلى الدرس الفقهي الذي كان يتوخى فهم النص القرآني واستنباط الأحكام والكشف عن الدلالات الشرعية، كما التفت علماء العرب إلى دلالات الألفاظ والكلمات، فسجّلوا معانَ الغريب في القرآن الكريم، وأنتجوا المعاجم الموضوعية ومعاجم الألفاظ، كما أن ضبط المصحف بالشكل يعد عملا دلاليا فتغيُّر شكل الكلمات يؤدي إلى تغير دلالة اللفظ، وفي ذلك تنوعت اهتمامات العرب بعد ذلك في هذا المجال بين اللغويين والأصوليين والفقهاء والبلاغيين والنقاد، فتعرّضوا للدلالة كلٌ من جهته، وقد ظهر التداخل بين هذه المباحث حتى كثرت الإصدارات فيها.
والدلالة مصطلح قديم نجده عند الفلاسفة والمناطقة وعلماء الكلام، ولم يستخدمه العلماء اللغوية إلا للدلالة على القرينة اللفظية أو المعنوية التي تتمثل في السياق، وهذا يعتبر بدايةَ التّنبه الواعي لبعض الخصائص البارزة في اللغة العربية منها " النهايات الإعرابية والوظائف الدلالية لعناصر التركيب " وذلك قائم على قراءة النص القرآني وظاهرة اللحن؛ منه نحو " سيبويه " القائمُ على أصول منهجية واصطلاحية مستمدّة من علوم الشريعة.
وعليه فالمفهوم اللغوي للدلالة يكون:
الدَّلالة يفتح الدال وكسرها وضمها من" دَلّ" مادة (دل ل) التي تدل على الإرشاد إلى الشيء والتعريف به ومن ذلك دّله على الشيء، يدلُّه دلاًّ ودلالة: سدّده إليه... ودلّه على الطريق يدلّه دلالة: عرّفه إياه. وفي أساس البلاغة " : « ومن المجاز الدال على الخير كفاعله، ودلّه على الصراط المستقيم»[1]
أي أرشده إليه وهداه وسدّده ونحوه. وهنا يبرز التطور الدلالي من الحسّي إلى العقلي المجرد. وفي لسان العرب نجد أن الدلالة وردت على مادة "دلَ": « والدَّليل: الدَّال، وقد دَلّه على الطَّريق يدُلُّه دَلالة ودِلالة ودُلولة، والفتح أعلى»[2] ويسوق قول سيبويه: « والدَّليلي علمُه بالدَّلالة ورسوخُه فيها »[3] . ويتضح معناها بأنه الإرشاد أو العلم بالطريق الذي يدل الناس ويهديهم.