الدلالة والسياق اللغوي
مخطط الموضوع
-
-
مقياس الدلالة والسياق اللغوي :
الجامعة : جامعة محمد الصديق بن يحيى- جيجل
الكلية : كلية الآداب واللغات
القسم: الأدب العربي
الاسم واللقب : نسيمة حارش
البريد الالكتروني: nassima.harche@univ-jijel.dz
عنوان الماستر: لسانيات عربية
المقياس :الدلالة والسياق اللغوي
الفئة المستهدفة : السنة الأولى ماستر تخصص لسانيات عربية
وحدة التعليم : المنهجية
السداسي : السداسي الثاني
الحجم الزمني:1ساو30د
الحجم الأسبوعي: 12 أسبوع
نوع المقياس: محاضرة / سداسي / و تطبيق
طريقة التقييم: امتحان وتقييم مستمر
معامل المادة : 02
الرصيد: 03
الجدول الزمني : يوم الاثنين من 11.00إلى 12.30
القاعة : 16
التواجد بالكلية : يومي الأحد والاثنين
التواصل عبر البريد الالكتروني : nassima.harche@univ-jijel.dz
أهداف تعليم المقياس : في نهاية المقياس يتمكن الطالب من التعرف على العلاقة بين دلالة الألفاظ وسياقاتها الداخلية والخارجية.
-دور السياق اللغوي في تحديد دلالة الكلمات داخل التراكيب المختلفة
-دور السياق اللغوي في العملية التعليمية
-يستطيع الطالب التفريق بين السياق اللغوي والسياق غير اللغوي .
- معرفة أوجه التداخل بين السياقات الداخلية والخارجية .
المعارف القبلية المطلوبة : قبل دراسة المقياس والولوج إلى عالم الدلالة والساق اللغوي لابد أن تتوفر لدى الطالب الخلفية المعرفية التالية :
- معرفة الفرق بين االدلالة المعجمية والدلالة السياقية .
- الفرق بين السياق الخارجي والسياق اللغوي.
- معرفة أهم المدارس التي اهتمت بالسياق .

-
عنوان الماستر : لسانيات عربية
السداسي : الثاني
اسم الوحدة :وحدة التعليم المنهجية
اسم المادة :الدلالة والسياق اللغوي
الرصيد:03
المعامل :02
محتويات المادة :
1- مفهوم الدلالة
2- أنواع الدلالة
3- جهود علماء العرب في الدرس الدلالي
4- مفهوم السياق
5- السياق عند النحويين
6- السياق عند البلاغيين
7- السياق عند الأصوليين
8- أنواع السياق
9- دور السياق في ترجيح المعنى
10- دور السياق في فهم النص
11-سياق الموقف
12-القرينة اللغوية
13-القرينة الاجتماعية
14- تداخل السياقات اللغوية
-
-
مفتوح: الاثنين، 10 فبراير 2025، 5:25 PMمغلق: الاثنين، 10 فبراير 2025، 5:25 PM
هذا الاختبار لتقييم المكتسبات القبلية للطالب في علم الدلالة والنحو الوظيفي للارتباط النظرية االسياقية بذلك
-
-
-
مفهوم علم الدلالة:
لقد ارتبط البحث في الدلالة عند العرب قديما بالقرآن الكريم والعلوم الدينية التي تمحورت حوله لفهم هذا النص المقدس، انطلاقا من هذا الارتباط الذي قدم إسهامات كثيرة وأصيلة في هذا الميدان، وذلك جلّي في كتب اللغة والمصنفات الدينية والنقدية والبلاغية التي عالجت الدلالة وإشكاليات المعنى من زوايا مختلفة، وكان للعرب السبق في كثير من هذه المباحث التي اتسمت بالجِدّة والتميز، رغم إقفال التاريخ العربي لهذه الجهود فكان اهتمام العرب "بالعلامة" التي تقابل مفهوم الدلالة في تراثنا العربي منذ وقت مبكر، وقد أكد "جورج مونان" على ضرورة تحديد المصطلح وتأطيره بالدلالة اللغوية؛ لأن " الدلالة " دخلت في مجالات عديدة فيها عموم قد يجعل الباحث. يحمّلها على اللغة.
وتعود نشأة الدلالة إلى الدرس الفقهي الذي كان يتوخى فهم النص القرآني واستنباط الأحكام والكشف عن الدلالات الشرعية، كما التفت علماء العرب إلى دلالات الألفاظ والكلمات، فسجّلوا معانَ الغريب في القرآن الكريم، وأنتجوا المعاجم الموضوعية ومعاجم الألفاظ، كما أن ضبط المصحف بالشكل يعد عملا دلاليا فتغيُّر شكل الكلمات يؤدي إلى تغير دلالة اللفظ، وفي ذلك تنوعت اهتمامات العرب بعد ذلك في هذا المجال بين اللغويين والأصوليين والفقهاء والبلاغيين والنقاد، فتعرّضوا للدلالة كلٌ من جهته، وقد ظهر التداخل بين هذه المباحث حتى كثرت الإصدارات فيها.
والدلالة مصطلح قديم نجده عند الفلاسفة والمناطقة وعلماء الكلام، ولم يستخدمه العلماء اللغوية إلا للدلالة على القرينة اللفظية أو المعنوية التي تتمثل في السياق، وهذا يعتبر بدايةَ التّنبه الواعي لبعض الخصائص البارزة في اللغة العربية منها " النهايات الإعرابية والوظائف الدلالية لعناصر التركيب " وذلك قائم على قراءة النص القرآني وظاهرة اللحن؛ منه نحو " سيبويه " القائمُ على أصول منهجية واصطلاحية مستمدّة من علوم الشريعة.
وعليه فالمفهوم اللغوي للدلالة يكون:
الدَّلالة يفتح الدال وكسرها وضمها من" دَلّ" مادة (دل ل) التي تدل على الإرشاد إلى الشيء والتعريف به ومن ذلك دّله على الشيء، يدلُّه دلاًّ ودلالة: سدّده إليه... ودلّه على الطريق يدلّه دلالة: عرّفه إياه. وفي أساس البلاغة " : « ومن المجاز الدال على الخير كفاعله، ودلّه على الصراط المستقيم»[1]
أي أرشده إليه وهداه وسدّده ونحوه. وهنا يبرز التطور الدلالي من الحسّي إلى العقلي المجرد. وفي لسان العرب نجد أن الدلالة وردت على مادة "دلَ": « والدَّليل: الدَّال، وقد دَلّه على الطَّريق يدُلُّه دَلالة ودِلالة ودُلولة، والفتح أعلى»[2] ويسوق قول سيبويه: « والدَّليلي علمُه بالدَّلالة ورسوخُه فيها »[3] . ويتضح معناها بأنه الإرشاد أو العلم بالطريق الذي يدل الناس ويهديهم.
-
وفي الاصطلاح: وكما جرت العادة فان البحث في المفهوم الاصطلاحي لأي مصطلح يكون بالعودة للتراث وانطلاقا من التراث العربي في تحديد مفهوم هذا المصطلح وجدنا تراثنا غني بالمسائل الدلالية وإن كانت غير محددة المجال، فقد وجدت الدلالة في رحاب الدرس الفقهي والفلسفي واللغوي، والتعريف الذي نراه جامعا هو ما جاء في كتاب "التعريفات " للجرجاني: «الدلالة هي كون الشيء بحاله يلزم من العلم به العلم بشيء آخر والشيء الأول هو الدال والثاني هو المدلول»[1] . إنَّ هذا التعريف بتجاوز تعريف المحدثين للدلالة، فهو بالإضافة إلى تحديد ركني الفعل الدليل، يشير أيضا إلى علم آخر أشمل من علم الدلالة وهو علم السيمياء (Semiologie) فتعبير الجرجاني عن الدال والمدلول بلفظ الشيء دون اللفظ يجعل التعريف جامعا لما هو لغوي وغير لغوي من أصناف العلامة، ومن ثم أصناف الدلالة
أمّا مفهوم الدلالة عند المحدثين، فإنها تعني عند " بريال " -واضع مصطلح علم الدلالة تلك القوانين تشرف ف على تغيير المعاني، ويعاني الجانب التطوري للألفاظ اللغوية ودلالتها.
لقد أصبح علم الدلالة يهتم بالصورة المفهومية للمدلول خاصة بعد الدراسة التي قدمها الإنجليزيان "أوجدن" و "ريتشارد" في كتابهما "معنى المعنى" الذي تمّ إصداره عام 1923 م، وفيه تساءل العالمان عن ماهية المعنى من حيث هو عمل ناتج عن اتحاد وجهي الدلالة؛ أي الدال والمدلول. يقول مازن الوعر في تقديمه لكتاب "علم الدلالة" ليبار جيرو: « وإذا كانت الصوتيات واللغويات تدرسان البُنى التعبيرية وإمكانية حدوثها في اللغة فإنّ الدلاليات تدرس المعاني التي يمكن أن يعبّر عنها من خلال البنى الصوتية والتركيبية» [2]. من خلال ما سبق يمكن القول: إنّ علم الدلالة فرع من فروع علم اللغة يهتم بدراسة جوهر الكلمة بهدف تحديد مقاصدية الخطاب فهي لا تنظر إلى صفات الوحدات اللغوية من حيث طبيعتُها التكوينيةُ والأدائية، وإنما محورُها الوظيفة الإبلاغية التي تؤديها هذه الوحدات في تناسبها مع المقام.
-
.أقسام الدلالة :
تعدّد أقسام الدّلالة عند أهل اللغة، وبرز هذا التنوع نتيجة الاختلاف في الأمور التي تتعلّق بكيفيّة تشكيل معنى الكلمة، فللكلمة الواحدة أبعاد مُختلفة من النّاحية الدّلاليّة في العِبارة الواحدة، وهذا ما دعا علماء اللّغة إلى تقسيمها، وهي:
-أولا/ الدلالة الوضعية وهي: الدلالة الحاصلة من الوضع والاصطلاح؛ أي الاتفاق على أن هذا الشيء قد وضع علامة على هذا الشيء، فمتى أُطلق فُهم منه ذلك الشيء .
مثال: اللغات كلها من باب الدلالة الوضعية؛ فإذا نطقت بكلمة "سيارة" فَهِم السّامع تلك الآلة المعروفة ولكل قوم لغتهم الخاصة بهم.
ومثال الدلالة غير اللفظية الوضعية: إشارات المرور؛ فأنت إذا رأيت اللون الأحمر ستوقف سيارتك، وإذا رأيت الأخضر سرت، وهذه دلالة وضعية لأن النظام الدُّوَلي قد اصطلح على جعل هذه الألوان دلالة على التوقف أو السير وهي ليست لفظا كما هو واضح.
-ثانيا/ الدلالة الطبيعية وهي: التي يكون منشأها طبع الإنسان أو عاداته.
مثال الدلالة اللفظية الطبيعية: لفظ "آخ" إذا توجعت من شيء؛ كأن تدوس على مسمار وأنت تمشي فتجد نفسك تقول بغير شعور "آخ" وتجد صديقك يفهم من هذا اللفظ مباشرة أنك تتألم وهذا اللفظ لم يوضع ليدلَّ على الألم ولكن اعتاد كثير من الناس أن ينطقوا به حين الشعور بالألم .
ومثال الدلالة غير اللفظية الطبيعية: إذا رأيت شخصا اصفرَّ وجهه فجأة فستعلم مباشرة أنه خائف من شيء ما وهذه دلالة طبيعة لأن الإنسان بطبعه وبغير إرادته يصفر عند الخوف.
-ثالثا / الدلالة العقلية وهي: الدلالة التي تنشأ بسبب العقل وتكون محكومة بقواعد َعقليةٍ مثل أن الأثر يدل. على المؤثر والفعل يدل على الفاعل فهي لا تنشأ من وضع الإنسان واصطلاحه ولا يسبب طبعه وعاداته بل بسبب اللزوم العقلي بين الدال والمدلول
مثال: الدلالة اللفظية العقلية: دلالة اللفظ على المتلفّظ؛ لأن اللفظ أثر فلا بد له من فاعل. فإذا سمعت نحنحة من خلف الجدار فانت ستعلم بلا شك أنه هناك منحنح؛ أي إنسان موجود لأن هذا الصوت يستحيل أن يوجد من غير شخص يقوم به.
ومثال الدلالة غير اللفظية العقلية: دلالة الدحان على النار لأن هذا أثر ومؤثر فالدخان أثر والنار مؤثر.
-
-
-
يعتبر الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175هـ) أولَ من أصَّل لدلالة الكلمة معتمدا الجذر البنيوي كأساس لتوليد الكلمات الجديدة عن طريق الاشتقاق والتقليب الحرفي، وجاء بعده سيبويه مكمِّلا لمباحثه ومهذّبَا لها فتحدَّث عن دلالة الحركات الإعرابية في البُني الإفرادية والتركيبية، وتعددها الذي يعطى دلالة مغايرة للدلالات الأخرى بحسب البنية المورفولوجية لكل كلمة، كما أشار إلى دور الدلالة التركيبية أو النحوية القائمة على عنصري المسند والمسند إليه في الإبانة عن المعاني المتضمنة في السياق اللغوي، ونبَّه إلى حاجة كل علم من العلوم العربية إليها، وما قدّمه الشافعي (ت (204ه) -مؤسس علم الأصول -يُعدُّ نقلة منهجية في علم الدلالة العربي، حيث وضع طرق الدلالة على النص القرآني في استنباط الأحكام الشرعية، ورغم ارتباطها بالإطار الديني إلا أنه يمكننا تعميمها على كل عمل لغوي يحمل تلك الخصائص الأدبية الموجودة في النص الشرعي، فمن خلال تحليله ودراسته لهذا النص، توصل إلى أن الحكم المستفاد من النص لا تحدده ألفاظ النص بقدر ما يستنبط من الدلالة العامة التي تحكم تماسكه باعتماد طرق الدلالة على ذلك، كَفهْم دلالة المنطوق فهمًا صحيحا يوصل إلى دلالة أخرى عميقة تسمى دلالة المفهوم (مفهوم الموافقة). فكانت نظرة الشافعي نظرة لسانية علمية حديثة لما يعرف عند أوجدن" و "ريتشارد" بمعنى المعنى.
نجد أيضا التأصيل العلمي لعلم الدلالة العربي واضحا في بحوث الجاحظ (ت (255هـ) البلاغية، الذي كان أوَّلَ من تنبّه إلى أهمية العلامة في إيصال أو تبليغ مفهومية الخطاب إلى المتلقي، فحدد مفهومها ووضع أصنافها وقرّق بذلك بين العلامة اللفظية والعلامة غير اللفظية. ونوّه كذلك إلى أن دلالة الخطاب تتعدى إطار التعبير لتشمل أحوال المتلقّين؛ فأسّس لدلالة السياق والمقام مُبِّينا دوره في نجاح الخطاب لدى المتكلم .
كما واصل ابنُ قتيبةَ (ت 276هـ) ما بدأه الذين سبقوه في هذا الجهد الدلالي واضعا بذلك ما يعرف عنده بـــ الدلالة التصحيحية " القائمة على التصويب اللغوي؛ مبينا أخطاء العامة ومبرزا الفصيح من الكلام العربي، فعالج أهم إشكالات علم الدلالة المتمثلة في إزالة الالتباس الدلالي والوقوف على أهم أسبابه.
ابن جني (ت (393هـ) جاء لينتصر للمعنى على اللفظ مبرزا حقيقته في التناول بخلاف اللفظ الذي يعدم تبعا له، فأقام الدليل على ذلك بما ورد في الكلام العربي، وبيّن أنّ عناية العرب بالألفاظ إنما هو من باب خدمة المعاني وتحصيل الهدف بالوسيلة، وبإفادته من بحوث سيبويه النحوية أمكن له وضع نظرية لغوية تزاوج بين النحو والدلالة من خلال حديثه عن المكون الدلالي للمفعل (المكون الدلالي للفعل شرح في الدرس)، وكان من أكثر اللغويين إشارة إلى الصّلة القائمة بين الدال والمدلول، ورغم أنّه انتقد في جوانبَ كثيرة من بحثه في طبيعة على العلاقة إلا أنه استطاع أن يزيل النقاب عن كثير من المسائل الدلالية خاصة ما تعلق منها بالجانب الصوتي عندما نوّه إلى دور الدلالة الصوتية في تحديد معنى الألفاظ.
ابن سینا (427هـ) تبع ابن جني في التأصيل للدلالة الصوتية، وأظهر اهتمامه الواضح بدلالة الصوت لارتباطه بحاسة السمع، فتحدث عن الصورة السمعية للفظ ودورها في تحديد دلالة اللفظ ومفهومه في النفس.
وقد شهدت بداية القرن الخامس انتقال علم الدلالة العربي من مرحلة كثر فيها التنظير وتعددت فيها الآراء والوجهات منادية باللفظ تارة وبالمعنى تارة أخرى إلى مرحلة أخرى حمل فيها عبد القاهر الجرجاني (ت 471) على عاتقه جمع مسائل هذا العلم وإقامتها على أسس علمية متينة، وأملى من القواعد اللغوية ما يحفظ نسيجها، معتمدا في ذلك على إبراز الجانب التطبيقي أكثر بضرب الأمثلة والنماذج التي تبين عن مضمونها، فرأى أن دلالة اللفظ الحقيقية تبرُز داخل التركيب الذي يأتلف فيه معنى اللفظ مع المعاني الأخرى ولا قيمة للمفردات إلا بمحاورتها للمفردات الأخرى، فأحدث "نظرية النظم" عنده صفة العلمية لجمعها بين النظرية والتطبيق، فيرى أن الترادف بين الألفاظ موجود لكن لا تتصف به المفردات المستقلة عن التركيب وإنما يوصف به الكلام المرتبط المتوخي فيه معاني النحو فيما بين مفرداته بحسب المقاصد والمقامات التي توضع لها فعرّف اللغة على أنها عبارة عن مجموعة من العلاقات التركيبية بين الألفاظ ودلالاتها تستخدم في إظهار مكنونات النفس وحالاتها المختلفة ورغم استعمال الألفاظ للدلالة على ذلك، براها قائمة على أساس العرف الاجتماعي، حيث لا تحمل هذه الألفاظ معنى في ذاتها وإنما تحكم دلالتها سمة الاعتباطية. كما يُعدُّ الجرجاني مؤسّسَ البنيوية الحديثة بدون منازع وقد سبق بذلك "دي سوسير" ففرّق بين النظام اللغوي القواعدي الذي يحكم عملية التواصل داخل المجتمع وأفراده المنتمين لهذا النظام الجماعي، وبين الأداء الفعلي للكلام وهو استعمال للنظام اللغوي بخصوصيات فردية لكل كلام.
وقد جاء الرازي (ت 606هـ) بعد الجرجاني التطبيق ذلك الجانب الدلالي في التفسير القرآني، مجمع بين التحليل الفيزيائي الصوت المعتمد في الدراسات الصوتية الحديثة والدلالة الصوتية المغيرة عما في النفس الإنسانية وتعلقها بالكلام المنطوق، كما وضع أرضية لدلالة الخطاب القائمة على الدلالة اللفظية أساسا بالإضافة إلى العلامات غير اللفظية كالإيماءات والإشارات والحركات العضوية التي تعدُّ مكمِّلة للعلامة اللفظية في لفت انتباه المتلقي وتسهيل عملية فهم الخطاب.
إذا تأمّلنا فيما سبق ذكره نجد توافقا وتكاملا في العديد من القضايا الدلالية كنظرتهم للعلامة اللسانية، وإن وجدت بعض الاختلافات البسيطة فإنما تعود إلى اختلاف نظرة كل عالم لوجه من الوجوه المتعلقة بتلك القضية الدلالية، ورغم كل ذلك نستنتج أن هذا التوافق والانسجام بين آراء العلماء يؤكّد على أصالة علم الدلالة العربي بعدّه علما قالما بذاته له قواعده وأسه العلمية وخصوصياته المتميزة لتعلُّقه بالقرآن الكريم، وزيادة على هذه الأصالة كان له الفضل الكبير في وضع الأرضية العلمية لعلم الدلالة الحديث يتعرض الكثير من القضايا الدلالية. ومعالجته الدقيقة للإشكاليات التي تعترض سبيله.
-
-
-
-
1.مفهوم السياق اللغوي
تعددت وتنوعت وكثرت أيضا الدراسات التي تطرّقت لموضوع السياق، ولنوفّيَه حقه في أوراقنا البحثية هذه وجب أن تتعرف عليه أولا كمصطلح ثم الغوص في تفاصيله الأخرى من أنواع وأهمية وأيضا دوره وعلاقته بالمعنى.
المفهوم اللغوي:
يعود السياق في أصله اللغوي إلى مادة "سَوق"، و في ذلك يقول ابن فارس:« السين والواو والقاف أصلٌ واحد وهو حذو الشيء... يقال سُقتُ إلى امرأتي صداقها وأَسقتُه، والسُّوق مشتقّة من هذا، لما يسأل إليها من كل شيء، والجمع أسواق»[1] .
ويذكر ابن منظور أنها من "السوق" قال: ... ساق الإبل وغيرها، يسوقها سوقًا وسياقًا، وهو سائق وسوّاق شديد للمبالغة... وقوله تعالى: { { وجاءتْ كلُّ نفسٍ معها سائِق وشهِيد } } قيل في التفسير: سائق يسوقها إلى محشرها، وشهيد يشهد عليها بعملها، وقيل: الشهيد هو عملها نفسُه... وقيل في الحديث ((لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه)) هو كناية عن استقامة النّاس وانقيادهم إليه واتفاقهم عليه، ولم يرد نفس العصا وإنما ضربها لاستيلائه عليهم وطاعتهم له إلاّ أن في ذكرها دلالة على عسْفه بهم وخشونته عليهم... وقد انساقت وتساوقت الإبل تساوقا إذا تتابعت... وساق إليها الصّداق والمهر سياقًا وأساقه وإن كان دراهم أو دنانير، لأن أصل الصّداق عند العرب الإبل، وهي التي تُساق، فاستعمَل ذلك في الدرهم والدينار وغيرهما»[2]. وجاء في المعجم الوسيط": «السياق المهْر، وسياق الكلام تتابعُه وأسلوبُه الذي يجري عليه.... .«[3].
من الأقوال السابقة تستنتج أن معاني "السياق تقوم على التتابع والاستقامة والانقياد والاتفاق، وهي كلها مفاهيم تحضر بقوة في الإنتاج اللّغوي باعتباره كتابها وانقيادا للأصوات والكلمات والعبارات وفق ضوابط وشروط الاستقامة اللغوية.
[1] این فارس: مقاييس اللغة، (3/117).
[2] این منظور : لسان العربية مادة (سوق)، (10/166).
[3] مجمع اللغة العربية بالقاهرة: المعجم الوسيط مادة (سوق)، ص 465.
-
-
-
يصعب تحديد المعنى الاصطلاحي لهذا المصطلح تماما، فنجد له في مؤلفات اللغة عدة تعريفات وحدود فهو بمعناه العام " النظم اللفظي للكلمة وموقعها من ذلك النظم " أو هو كما يقول صاحب معجم علم اللغة النظري السياق (Context) هو البيئة المحيطة بالفونيم أو المورفيم أو التركيب اللغوي»[1]. وقد عرفه محمود السعران بأنه: « جملة العناصر المكونة للموقف الكلامي»[2]
يتكون مصطلح السياق (Context) من المسابقة اللاتينية (Con) بمعنى مع، و textus) ) التي تعني: النص وقد قصر صاحب "معجم المصطلحات الأدبية " ترجمة المصطلح في القرينة الحالية دون الالتفات إلى المستويات السياقية الأخرى وبذلك ينحصر – عنده- في السياق الخارجي، وقد أشار عبد الفتاح البركاوي إلى أن مصطلح السياق (Context) قد اتخذ عدة معاني هي: ما يحيط بالوحدة اللغوية المستعملة في النص، كما يعني قيود التوارد المعجمي، ويعني أيضا النص اللغوي الذي يتسم بسعة نسبية ويؤدي معنى متكاملا سواء كان ذلك النص مكتوبا أم ملفوظا، كما يعني أيضا الأحوال والمواقف الخارجية ذات العلاقة بالكلام.
وقد ارتبط بالمصطلح مفهومين أساسيين هما:
-الاستعمال الأول: ويتعلق بالضبط اللغوي الذي تنتظم خلاله الكلمات ومجموعة الألفاظ التي تسبق أو تلحق كلمة أو عبارة أو جملة، والتي تساعد في بيان ما تعنيه هذه الكلمة أو العبارة أو الجملة أو النص كاملا، يقول ستيفن أولمان: « كلمة السياق (Contex) قد استعملت حديثا في عدّة معاني مختلفةٍ، والمعنى الوحيد الذي بهم مشكلتنا في الحقيقة هو معناها التقليدي، أي « النظم اللفظي للكلمة، وموقعها من ذلك النظم »[3].
-الاستعمال الثاني: والذي تدفق ضمن الطرح التداولي ويضم الظروف والملابسات الثقافية والاجتماعية والنفسية التي تحيط بالإنتاج الكلامي، يقول جون ديبو: « السياق هو مجمل الشروط الاجتماعية المتفق عليها التي تؤخذ بعين الاعتبار لدراسة العلاقة الموجودة بين السلوك الاجتماعي واستعمال اللغة .... وهي المعطيات المشتركة بين المرسل والمرسل إليه والوضعية الثقافية والنفسية والتجارب والمعلومات الشائعة بينهما»[4] وقد شكل هذا المفهوم النقطة الأساس في الدراسات التداولية.
ومنه نلاحظ أن مفهوم السياق في بُعده العام يقوم على تلك المعطيات اللغوية وغير اللغوية التي تتفاعل في الإنتاج اللغوي، وترتبط فيما بينها ارتباطا وثيقا، ويجب أن نشير هنا إلى أن "السياق" بهذين النوعين اللغوي وغير اللغوي (سياق الحال)، يشكّل نسقا من العناصر التي تمدُّ الدارس بكيفيات فهم الخطاب اللغوي وتأويله التأويل الصحيح.
وبهذا تستنتج أن "السياق" هو الإطار الذي تتنزّل من خلاله اللغة محل الموجودات الفعلية ضمن حيّز زمكاني يحتضنها، ومعطيات حالية متنوعة الموارد (اجتماعية، نفسية ثقافية ....) تضبطها فتعطيها المعنى الخاص بها.
[1] Al-khuli a dictionary of theoretical linguistics, English-Arabic, p57
[2] محمود السعرات علم اللغة ( مقدمة للقارئ العربي)، ص 339.
[3] ستيفن أولمان: دور الكلمة في اللغة، ترجمة كمال محمد بشر، ص 62.
-
-
-
دور السياق في ترجيح المعنى:
السياق اللغوي هو الضابط الدلالي مديره المعين، فهو يحدد قرائن المعنى من خلال المتلازمات الأصولية للص، ويعتمد على عناصر لغوية في سياق النص تعين من خلالها للمتلقي تتبع عناصره اللغوية لتحديد دلالة المعنى الأرجح، وهذه القرائن مثل: ذكر حملة سابقة أو لاحقة أو عنصر في جملة سابقة أو لاحقة أو الجملة نفسها تحول مدلول عنصر آخر إلى دلالة عسيرة معروفة له كما في قوله تعالى: { { أتى أمر الله فلا تستعجلوهُ } } بحيث بعد جملة: { قلا تستعجلوه } قرينة سياقية قوية تصرف الفعل عن دلالته وتعرف الفاعل: { أمر الله } بصورة عن دلالته أو عبارة أخرى تحدد دلالته، لأن العناصر المكونة للجملة لن تبقى دون تفسير، إذ صرف عنصر فيها عن دلالته بقرينة وقوع الفعل، وقيل: إنّ تلازم المفردات وفق زمنية الحديث ووفق الترتيب لغوبي قائم على توالي الوحدات اللغوية في هيئة النص وعلى تركيبها العام ووفق صيغتها الخاصة يعطي السياق أحقية ترجيح المعنى وتقييد، على مقترحات المعنى المتعددة التي قد تتوارد من خلال الكلمة أو اللفظ. ونأخذ على سبيل المثال الحصر للفظة ( ضرب) التي قد ترد في سياقات مختلفة تكوّن معناها، فترد بمعنى (المعاقبة) كما في سياق قوله تعالى:{ { واهْجروهن في المضاجعِ واضربوهنَّ فإنْ أطعنكمْ فلا تبغٌوا عليهنِّ سبيلاً } } والذي حقد دلالة هذه اللقطة هي كلمة (واهْجروهنِّ) حيث صيغت على هيئة فعل الأمر، والأصل تكليف أداء شيء، فنصل إلى أن صياغة الآية وسياقها هو الوجه التكليفي الشرعي، والتشريع فيه إثابة أو معاقبة، كما أن قوله تعالى في: { { ضربَ الله مثلاً رِّجلا ًشركاه مُتشاكسونَ ورَجُلاً سلمًا لرجُلٍ من يستويانِ مثلاً الحمدُ الله بلْ أكثرهُمْ لا يعلمونَ } } . فلفظة الضرب هذا تدل على (الذّكر)، والذي يحدد هذه الدلالة ويقيدها لفظة ( مثلا)؛ لأن المثل يذكر الرشد والتذكير والوعظ. ومنه كانت لهذه الكلمة دلالات مختلفة في القرآن الكريم، كل دلالة حددت في سياقها الذي يشكل الفيصل في تبيان دلالات والتفريق بينهم .
وعليه كان في دراسة المعنى من خلال السياق ترجيح للمعنى وتقييد له دون باقي المعاني، ويفهم من هذا أيضا تكاثف عناصر الموقف اللغوي في قراءة. وظيفة اللغة.
-
السياق في الدرس التداولي :
بأحد مفهوم السياق في التحليل التداولي بُعدًا عميقا، فهو أحد أهم مرتكزات التداولية في دراستها للغة أثناء استعمالها، إنّه أداة إجرائية يتميز بها التنظير التداولي على مستوى اللغة، وعلى مستوى السياق الاجتماعي والثقافي والنفسي، حيث يقسّم الدارسون التداولية إلى ثلاث درجات، تحدّد كل درجة على أساس تشغيلها للسياق، فتداولية الدرجة الثالثة تتعلق بتطبيقات أفعال الكلام في سياقها اللغوي وتشتغل على توظيف السياف يعمق في تحليلاته حيث يؤدي السيال وظيفة رئيسة في كشف مقاصد المتكلم الظاهرة والخفية، وهو ما جعل السياق منتشرا في مجالات معرفية متعددة، فهو يتوزع عبر فضاءات معرفية كثيرة منها ما هو مرتبط بالمتكلم والمتلقي وشروط الإنتاج اللغوي والزمان والمكان وغيرها...
يمكن القول أن التداولية بعدّها علم الاستعمال اللغوي ضمن السياق أو طرائق استعمال العلامات ضمن سياق ما، يمكن أن تسمى أيضا بالسياقية كما عند "ماكس بلاك"، وأن مفهوم السياق في التنظير التداولي تجاوز الاصطلاح إلى الإجراء العملي، حيث إنّ السياق كما يرى "علي آيت أوشان"؛ في تحليله للمفهوم عند الباحثة "فرانسواز أرمينكو " مفهوم مركزي يمتلك الطابع التداولي، لا تعلم حدود بدايته ونهايته، اتساعه يجعلنا نعْبُر من درجة التداولية إلي أخرى فهو إمّا:
-سياق ظرفي فعلي وجودي مرجعي: وهو المحدِّد لانتماء المخاطَين وهواياتهم وبيئتهم المكانية والزمنية وهو ما يحدد مفهوم التداولية عند بارهيل ومونتاك بأنها السياق وما يحمله من أفراد موجودين في العالم الواقعي.
- سياق مقامي تداولي: وهو ما تفهمه الجهة المنتمية إلى نفس الثقافة على أنها ممارسة خطابية.
- سياق تفاعلي: ويقصد به تسلل أفعال اللغة في مقطع متداخل الخطابات.
- سياق اقتضائي : وهي اقتضاءات يحس بها المتلقون من اعتقادات ومقاصد تكون مشتركة بين المخاطبين.
ويمكن أن نجعل هذه الأقسام نصفين وهما: السياق اللغوي" و "السياق غير اللغوي". أو كما قسمهما فيرث سياق لغوي" و "سياق الحال"؛ فأمّا الأول فيتمثل في العلاقات الصوتية والمورفولوجية والفونولوجية والنحوية والدلالية. والآخر فيمثله العالم الخارجي بما له علاقة بالظروف الاجتماعية والنفسية والثقافية للمشاركين في الكلام.
وهكذا يكون السياق اللغوي هو مجموعة من العناصر اللغوية التي تحيط بالملفوظ وجزء منه، والسياق غير اللغوي هو مجموع من المقتضيات غير اللغوية التي تحدد بمقتضاها الملفوظ على أنه رسالة في زمان ومكان محددين وهذه العوامل تتصل بالمخاطَب والمخاطِب.
-
-
-
الأول: عند الأصوليين
استعمل الأصوليون مصطلح السياق استعمالا واضحا في دراساتهم وأرادوا به ما يدل عليه، فمنه كانت البدايات الأولى لتدوين علم أصول الفقه على يد " محمد بن إدريس الشافعي " فأشار إليه في كتابه "الرسالة" وتطرق إلى قضية سياق النص بإشارة إلى مفهومه. ولقد رأى الأصوليين أنه لا معنى من دون سياق ولا تأويل من دون اعتبار له، تلك إحدى خلاصات تعاطي الأصوليين مع خطاب الوحي وإحدى إسهاماتهم المتمثلة بأسباب النزول والمواقف الملابسة لنصوص الحديث الشريف، أما ما ورد من نصوص صريحة في الحديث عن السياق، فيتفق على أسلوب واحد في التعبير عن وظيفة السياق في بيان المجملات وترجيح وتقرير الواضحات، وقد أكد الغزالي أن هناك الفاظا لا تُفهم بالإشارة والكلام ونحوه، وهي خمسة أضرب: دلالة الاقتضاء، ما يُؤخذ من إشارة النّص، دلالة الإنماء (فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب)، فهم غير المنطوق بدلالة سباق الكلام ومقصوده (مفهوم الموافقة)، مفهوم المخالفة. كما حدد ابن قيم الجوزية في بعض الوظائف التي يؤتيها السياق في بيان الدلالة، لكونه من أعظم القرائن الدالة ويذكر ابن تيمية أن معيار تقسيمات الأصوليين للنصوص هو مدى وضوح الدلالة أو خفاؤها، والطريقة التي تتم بها العملية في تحصيلها كونها تُفهم من ظاهر اللفظ أو من قرائن أخرى في السياق، وفي ذلك يذكر طاهر سليمان حمودة أن السياق يبدو واضحا في الدرس الأصولي عامة، فقد أدركه الأصوليون بشقيه ( اللغوي والاجتماعي)، واعتمدوا عليه في فهم النصوص والاستنباط والتصور الدقيق لعناصرها المختلفة التي تشمل الموقف الكلامي بأسره، وهم يتفقون في جوهره مع نظرية السياق الحديثة[1]
ويبدو أن الأصوليين من هذه الجهة التداولية قد استأثروا بالبحث فيما فرّط فيه كثير من النحاة، وذلك من جراء فهمهم لطرق تأليف الكلام وأوجه استعماله وإدراك مقاصده وأغراضه وما يطرأ عليه من تغيير ليؤدي معاني مختلفة.
-
الثاني: عند البلاغيين
انصبَّ اهتمام البلاغيين في دراستهم للسِّياق على " فكرة مقتضى " الحال" والعلاقة بين المقام والمقال. وكان ذلك الاهتمام في هذا المصطلح من طرف علماء " علم المعاني " وفي ذلك يقول التهانوي: « والحال في اصطلاح أهل المعاني هي الأمر الداعي إلى المتكلم على وجه مخصوص؛ أي الداعي إلى أن يعتبر مع الكلام الذي يؤدى به أصل المعنى خصوصية ما هي المسماة بمقتضى الحال، مثلا كون المخاطب مذكرا للحكم حال يقتضى تأكيد الحكم والتأكيد مقتضاها ... وعلى هذا النحو قولهم "علم المعاني" علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بما يطابق اللفظ مقتضى الحال؛ أي يطابق صفة اللفظ مقتضى الحال، وهذا هو المطابق بعبارات القوم حيث يجعلون الحذف والذكر إلى غير ذلك معلّلةُ بالأحوال»[1] . ومنه كان من الواضح أن أهل علم المعاني اهتموا بأحوال المتكلم والمستمع، والتعريف يقتضي أن يكون المتكلم عارف بأحوال السامع قبل التكلم حق يأتي بالكلام على صفة مخصوصة تتطابق مع حال المستمع.
وإذا ما نظرنا إلى " المقال" على أنه يمثل السياق اللغوي" فإننا نجد أن البلاغيين قد أوْلَوه عناية كبيرة منهم عبد القاهر الجرجاني الذي ربط فصاحة الكلمة بسياقها اللغوي والتركيب الذي قيلت فيه، فيقول:« وجملة الأمر أننا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، ولكنّا نوجبها لها موصولة بغيرها، ومعلقا معناها بمعنى ما يليها، فإذا قلنا في لفظة (واشتغل) من قوله تعالى : { { واشْتعلَ الرّأسُ شيباً } } إنها في أعلى المرتبة من الفصاحة، لم نوجب تلك الفصاحة لها وحدها، ولكن موصولاً بها الرأس معرفا بالألف واللام، ومقرونا إليهما. الشيب منكَّرا منصوبا»[2].
وإذا نظرنا مرة أخرى للمقام" على أنه هو "سياق الموقف" وجدنا ذلك واضحا عند البلاغيين، فهذا عبد القاهر الجرجاني أيضًا يربط الكلام بمقام استعماله ومراعاة مقتضى حاله، وهو لبُّ دراسة المعنى اللغوي عنده ومنبثق من نظريته في النظم، وقد ثار على اللغويين العرب لأنهم لم يستفيدوا من مبدأ جيد وضعه سيبويه مؤدّاه ربط الكلام بمقام استعماله، بل وقع في ظنّهم أن كل تقديم أو تأخير أو حذف... إنما هو العناية والاهتمام، وقد أورد قول النحويين: وقال النحويون: إن معنى ذلك أنه قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه، ولا يبالون من أوقعه، كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجي يخرج فيعيت ويفسد، ويكثر به الأدى، أنهم بيريدون قتله، ولا يبالون من كان القتل منه، ولا يعنيهم منه شيء، فإذا قتل وأراد مزيد الإخبار بذلك فإنه يقدّم ذكر الخارجيَّ فيقول: " قتل الخارجي زيد"، ولا يقول: "قتل زيد الخارجي"، لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له "زيد" جدوى وفائدة، فيعنيهم ذكره ويهمهم ويتصل بمسرتهم ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقعون له ومتطلعون إليه متى يكون، وقوع القتل بالخارجي المفسد، وأنهم قد كفوا شره وتخلصوا منه»[3] ، ثم قالوا [أي النحاة ] :
« فإن كان رجل ليس له بأس ولا يقدر فيه أنه يقتل، فقتل رجلاء وأراد المخبر أن يخير بذلك فإن يقدم ذكر القاتل فيقول: " قتل زيد رجلا" .[4]
ومن الأمثلة التي تبين أيضا اهتمام الجرجاني بالسياق بشقيه في دراسته للتراكيب وما يعتريها من حذف قوله:
«هو مما يجب ضبطه هنا أيضاً: أن الكلام إذا امتنع حمله على ظاهره حتى يدعو إلى تقديرٍ حذفٍ، أو إسقاطِ مذكورٍ، كان على وجهين: أحدهما أن يكون امتناع تركه على ظاهره، الأمر يرجع إلى عرض المتكلم... الوجه الثاني أن يكون امتناعُ تركِ الكلام على ظاهره، ولزومِ الحكم بحذفٍ أو زيادةِ، من أجل الكلام نفسِه، لا من حيث غرض المتكلم به، وذلك مثل أن يكون المحذوف أحد جزءي الجملة»[5].
وهكذا يربط الجرجاني جميع القرائن النحوية من تمام أو رتبة أو مطابقة، بمراعاة السياق اللغوي وسياق المقام وما يتصل بمشاعرهم على نحو ما مرّ في مثال "الخارجي".
وإذا كان مصطلح "مقتضى الحال" يقترب إلى حد كبير من مصطلح "سياق الحال" في الدرس اللغوي الحديث ويشترك معه في أهم خاصية وهي الاهتمام بالجانب الاجتماعي للُّغة، فإن مصطلح "مقتضى الحال" بالتعريف السابق للتهانوي فهو أضيق دلالة من مصطلح "سياق الحال"، إذ لابد أن يسبق المقام أو مقتضى الحال المقالَ، لأن الكلام يُصاغ بمقتضاه وهذا يختلف عن مفهوم (سياق الموقف)، حيث يُستعان بعناصره لفهم الكلام بعد إنتاجه وهذا المقال جزء من هذا السياق وليس منفصلا عنه، وأيضا يرى "كمال بشر" أن: البلاغيين قد وفقوا في إدراك شيء مهمّ في الدرس اللغوي وهو المقام، ولكنهم طبقوه بطريقتهم الخاصة وكانت غايتهم في المقام لمعرفة الصحة والخطأ والجودة وغيرها لهذا كانت نظرتهم للمقام أو مجربات الحال أو ما يسميه هو " المسرح اللغوي " نظرة معيارية لا وصفية، وبذلك يختلف المقام عند البلاغيين مما هو عند المحدثين. وبهذا يكون النحاة هم الأقرب إلى مفهوم "سياق الحال" أو "سياق الموقف" من البلاغيين.
[1] التهانوي كشاف اصطلاحات الفنون، (2/125).
[2] عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 402.
[3] عبد القاهر الجرجاني : دلائل الاعجاز، ص 107.
[4] المرجع نفسه، ص108.
[5] عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص421.
-
الثالث: عند النحاة
لقد اهتم اللغويون بالسياق وأولوه عناية وتكلموا فيه طويلا منذ بداية جمع اللغة والتقعيد لها، فنجد أبا عمرو بن العلاء يُقرُّ بذلك عندما سئل: «أكانت العرب تطيل؟ فقال: نعم لتبلغ ثم قيل له: أفكانت توجز؟ قال: نعم ليُحفظ عنها»[1]، أي أن العرب كانوا إذا تكلموا يهتمون بالسياق الذي يتحدثون فيه فإذا كان المراد من الحديث التبليغ أطالوا وإذا كان هدفهم حفظ السامع لما يقال أو جزءا لتسهيل العملية عليه.
ومن النحاة الذين تعلموا بالسياق مجد سيبويه (ت 180هـ) وهو لم يتحدث عنه صراحة وإنما أشار إليه من خلال حديثه عن الاستقامة والإحالة في الكلام فقال: « فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب. فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتك أمسِ وسآتيك غدا، وأما المحال فأن تنقض أول كلامك بأخره فتقول: أتيتك غدا وسآتيك أمسِ وأما المستقيم الكذب فقولك: حملت الجبل وشربت ماء البحر ونحوه، وأما المستقيم القبيح فأن تضع اللفظ في غير موضعه نحو قولك: قد زيدا رأيتُ، وكي زيدًا يأتيك وأشباه هذا، وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس»[2]. فالسياق عند سيبويه بتضافر بنوعيه (السياق اللغوي وسياق الموقف) في الارتقاء بالمعنى وتوضيحه من خلال تعانق صحة المعنى مع التجديد زمن الكلام باعتباره عنصرا من عناصر سياق الموقف حيث يُجاز التركيب أو يرفض في ضوء واقعيته، حيث نصّ على أن التركيب المجاز هو المحدد بزمان أو مكان مع استقامة المعنى، وهذه التراكيب التي لها صلة بالسياق تعددت في لغتنا وتباينت فيما بينها تبعا لطبيعة ذلك التراص وملابسات السياق، مما استدعى ظهور أنماط تركيبية يقبل بعضها ويرفض بعضها الآخر، وقد تكفل سيبويه ببعض منها بإعطاء أمثلة كلامية قوامها الكلم العربي.
ومن بين النحاة الذين أكّدوا على أهمية السياق أبو البركات الأنباري (ت 328هـ) وتعلى هذا الاهتمام في قوله: «أنّ كلام العرب يصحح بعضه بعضا ويرتبط أوله بآخره، ولا يعرف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه، واستكمال جميع حروفه، فجاز وقوع اللفظة على المعنيين المتضادين، لأنها يتقدمها ويأتي بعدها ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر، ولا يراد بها في حال التكلم والإخبار إلا معنى واحد»[3].
ولا يمكننا الكلام على اللغويين دون أن نعرج على أحد أعمدة اللغة العربية وشيوخها ابن جني (ت 394هـ) الذي. فقد اللغة وكان له دور كبير في الدفاع عنها، وتجد هذا في قوله « فكان العرب إنما تحلى ألفاظها وتديجها وتشبيها وتزخرفها عناية بالمعاني التي وراءها وتوصلا بها إلى إدراك مطالبها»[4] فتوصل إلى نتيجة مفادها وأن الألفاظ خدم المعاني»[5]
وقد أشار ابن جني إلى أهمية السياق اللغوي الذي يرد في الكلام فقال: « كما أن القول قد لا يتم معناه إلا بغيره الا ترى أنك إذا قلت: قام وأخليته من ضمير فإنه لا يتم معناه الذي وضع الكلام عليه وله»[6] فنفهم من قوله: « قد لا يتم معناه » أن هناك إمكانية لفهم المعنى دون الحاجة إلى غيره؛ أي من خلال ما يحيط بالكلام من ملابسات وهذا ما يسمى بالسياق غير اللغوي.
[1] ابن حني الخصائص، (1/83).
[2] ) سيوية الكتاب(، (25/1).
[6] عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص49.
-
دور السياق في النظم:
لقد أشار "الجرجاني" إلى دور السياق في إبراز الدلالة، من خلال الترتيب الذي تأخذ فيه العلامة اللغوية قيمتها، التبين المعنى المقصود - على مثل ما وضح (سوسير)، إذ لا قيمة العلامة لغوية في ذاتها إنما قيمتها تستمد من محيطها؛ أي بما يخالفها ويجاورها من علامات أخرى، وهذا رأي الجرجاني الذي أخذ فيه شوطه لإثباته والتدليل عليه بالأقاويل والأمثلة الكثيرة، وعلى سبيل ما قاله: "وأما نظم الكلم، فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو (النظم) الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء وانفق، ولذلك كان عندهم نظيرا للنسج والتأليف والصياغة والبناء والوي والتحبير وما أشبه ذلك، مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض، حتى يكون الوضع كل حيث وضع، علة تقتضي كونه هناك، وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح[1] ، وهو إثبات كذلك الاعتباطية الدليل اللغوي أو العلاقة بين اللفظ ومعناه، إذ كل شيء إنما يتم بينهما لفهم الأشياء من حولنا، حيث لو أطلق لفظ على معنى ما لألصق به دون وهي من قائله، بحكم الوضع والاتفاق الذي وحد بينهما، فإن حدث تغير في أحد الشقين يتبعه تغير في الشق الآخر، وفقا لما يمليه التصور، "فلو أن واضع اللغة كان قد قال (ريض) مكان (ضرب)، لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد[2].
على هذا الأساس وضح "الجرجاني" تصوره في كون اللفظ لا يعرف له موضع في التركيب من غير معناه لأن الألفاظ أوعية للمعاني وتبع لها وهي تدل عليها في مدرج الكلام على نحو ما تدل المعاني على الفاظها في الذهن، إذ يقول: "لا يتصور أن تعرف للفظ موضعا من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا نظماً، وأنك تتوخى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك، فإذا تم لك ذلك أتبعتها الألفاظ وقوت بها آثارها، وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكرة في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني، وتابعه لها، ولاحقة بها، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس، وعلم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق[3]. إذا، وكما يقول (شوقي ضيف): "فصاحة الألفاظ وبلاغتها لا ترجع إلى الألفاظ بشهادة الصفات التي توصف بها، وإنما ترجع إلى صورتها ومعرضها الذي تتجلى فيه، وبعبارة أخرى ترجع إلى نظمها وما يطوى فيه من خصائص ومعنى ذلك أن هذه الصفات ليست صفات للألفاظ في أنفسها، وإنما هي صفات عارضة لها في التأليف والصياغة بسبب دقائق بلاغية لم تكن لها قبل سياقها الذي أخذته في صور نظمها[4].
فقد حاول عبد القاهر إرساء من دوم تعلق الكلمات ببعضها البعض[5].
[1] عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، المرجع السابق، ص49.
[2] المرجع نفسه، ص ص 53-54.
[3] البلاغة تطور وتاريخ، من 164.
[4] مصطفى ناصف القراءة في دلائل الإعجاز، مجلة النقد الأدبي. تصدر عن البيئة المصرية العامة للكتاب ع3، 1981، ص 34.
-
-
-
أهمية السياق في التحليل الدلالي:
لا شك في أن تحديد مفهوم دقيق يستوفي أبعاد السياق أمر صعب، بيد أن ضبط محاله وتوضيح وبيان أهميته العظيمة في تحديد معنى العلامة اللغوية يزيل بعض الغموض، إذ علينا أن نركز على النقطة الأساسية وهي أن السياق دورا كبيرا في التحليل الدلالي لأهميته في تعيين قيمة الكلمة، ففي كل مرة تستعمل فيها الكلمة تكتسب معنى محددا مؤقتا. ويفرض السياق قيمة واحدة على الكلمة هي المعنى الذي تدل عليه في سياق معين دون آخر[1]. ثم إن الكلمة لو اقتلعت من بنيتها اللغوية والتركيب اللفظي تصبح ذات معنى معجمي، ومعلوم أن هذا النوع من المعنى متعدد. لذا، يؤكد أصحاب هذه النظرية أنه لا معنى العلامة اللغوية خارج سياقها والوصول إلى وظيفتها الدلالية وفهمها يتحقق فقط يوصف قيمتها بين قريناتها من جهة، وسط الظروف الخارجية التي فرضت عليها ذلك الموقع دون غيره من جهة أخرى؛ أي بأخذ قيمتها من التالي اللفظي ومن تالي العوامل المقامية، ومن ثم أهمية هذه النظرية تكمن في المساواة بين البنية اللغوية والبنية الثقافية على حد سواء إذ لا فضل لأحدهما على الآخر إنما يتحدان لأجل التحديد المعنى الدلالي.
تهتم هذه النظرية "بالسياق اهتماما كبيرا، ويبدو ذلك واضحا من خلال اسمها، وقد بين فيرث حدود هذا الاهتمام عندما أشار إلى أنه من الممكن أن يوصف منهاجه في الدراسة السياقية بأنه "المحقق سياني متسلسل" أي أنه سياق مندرج في سياق وكل من هذه السياقات يؤدي وظيفة عضو في السياق الأكبر، وجميع السياقات نجد لها موضعا في ما سماء "بسياق الثقافة Context of culture "[2]، بالتالي، فمفهوم السياق الدلالي لا يعني التالي اللفظي أو تتالي الظروف الخارجية فحسب، بل هو تتالي سياتي وتركيب مالي منتظم للوصول إلى فهم أعمق اللبنية اللغوية الثقافية الكلية.
[1] على زوين، منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث، ص 94.
[2] محمد محمد يونس، المعنى وظلال المعنى، ص 123.
-
-
النظرية السياقية contextual theory:
لقد أصبح البحث عن المعنى شغل علماء اللغة، ولم يتوقف الأمر عند الحدود النظرية بل حاول الباحثون رسم مبادئ تفتح مجال التطبيق والتحليل الممنهج، كما لم يبل الاهتمام منها على نوعية العلاقة بين اللفظ والمعنى فحسب إنما تجاوزوه إلى الوظيفة الحيوية التي يؤديها المعنى داخل النظام اللغوي الثقافي العام، ولأن الكلمة حال انعزالها عن تركيبها تحمل معاني متعددة معجميا فإن الدرس الدلالي الحديث انفتح على قواعد تضبط المعنى الدلالي للكلمة من خلال إلزامها يحمل قيمة خاصة تعبر بها عن معنى واحد، عن طريق تسييقها وربطها بعالمها اللغوي والاجتماعي على حد سواء؛ ذلك أن المعنى الدلالي لم يعد يفهم كما سبق من التالي اللفظي فحسب بل فهم بوصفه تفاعلا بين النظامين الداخلي والخارجي، وأصبح يوصف من زاوية تتابع العناصر اللغوية ومن زاوية المعطيات المقامية، وهذا ما جاءت به النظرية السياقية " التي تعد أكثر التصاقا بعلم الدلالة وأدق منهجية وضبطا للأسس العلمية الموضوعية في الوصول إلى المعنى الأساسي حذفا للمعاني الهامشية التي يمكن أن تلصق بالكلمة، هذه النظرية الحديثة تبلورت أسسها على يد اللغوي البريطاني فيرث firth" لإعادة الاعتبار للشق الثاني الذي أهمله البنيويون في الدراسات اللغوية وهو الجانب الاجتماعي، وهنا يلزمنا الجذر في تحديد مفهوم المعنى الدلالي اجتماعيا الذي لا يخرج عن نطاق الوصفية.
ولئن كان البنيويون قد ركزوا على النظام الشكلي للغة بحكم الرؤية للمنهجية الخاصة، معتبرين التحليل اللغوي الذي يجري على المستويات المعروفة ملتزما بالقواعد الداخلية التي تحكمه، فإن "فيرث" قد فتح هذا النظام وربطه بالعالم الخارجي مركزا على ضرورة مراعاة الظروف عير اللغوية في العملية التحليلية، ذلك أن اللغة ليست مجرد نظام لغوي فحسب إنما هي تعبير عن الخارج الاجتماعي والثقافي، معتبرا أي كلمة أو جملة خارج هذا الإطار مجرد أصوات متتالية لا ماهية لها تكشف عن معنى احتمالي لا أساسي. لذا ما أضافه يعد قفزة جريئة لتوسيع عمال الدرس اللساني واهتمامه بالسياق الخارجي للغة أو ما يصطلح عليه بسياق المقام(Context of situation) والاهتمام بهذا الجانب أن يكون على حساب السياق اللغوي (Linguistic Context ) بل وازن بين الطرفين؛ فكما تدرس الدرس أيضا المستويات اللغوية الصوتية والمعجمية والصرفية والنحوية والدلالية وإن كان قد عبر عنها بالوظائف لأن لكل عنصر منها وظيفة حيوية.
-
4.السياق عند علماء الغرب:
استحوذ السياق على انتباه العلماء الغربيين، فاعتنوا به وأولوه أهمية كبيرة، كما خصّوه بنظرية قائمة بذاتها وهي النظرية السياقية " وكانت على يد الإنجليزي " جون فيرت"، وقد سبقه إلى ذلك علماء بذلوا جهودا حول هذه الدراسة نذكر منهم:
-فردناند دي سوسير: الذي يقول: « الكلمة إذا وقعت في سياق ما لا تكتسب قيمتها إلاّ يفضل مقابلتها لما هو سابق ولما هو لاحق، أو كليهما معا .[1] «
- جورج فندريس: الذي يقول: «أننا حينما نقول بأن لإحدى الكلمات أكثر من معنى واحد في وقت واحد نكون ضحايا الانخداع لحدٍ ما، إذ لا يطفوا في الشعور من المعاني المختلفة التي تدل عليها إحدى الكلمات إلا المعنى الذي بعينه السياق، أمّا المعاني الأخرى فتمحى وتبدد ولا توجد إطلاقا»[2] . وبين أهميه بقوله أيضا: « تزود كل كلمة لحظة استعمالها تزويدا تاما بقيمة وقتية تبعد جميع القيم الناتجة من الاستعمالات الأخرى التي تصلح لها الكلمة»[3]. فهو هنا يشير إلى أن السياق يمنع تعدد المعاني وأنه العامل الحاسم الذي يعدد المعنى المراد.
-فيرث: الذي يُعدُّ من أهم العلماء الغربيين الدين اهتموا بالسياق وفق ما أسّسه من نظرية حاملة للموضوع فمعنى الكلمة عنده يكمن في الطريقة التي تستعمل بها أو الدور الذي تأدّيه، ولهذا يصرح بأن المعنى لا ينكشف إلا من خلال تسبيق الوحدة اللغوية أو وضعها في سياقات مختلفة. فدراسة معاني الكلمات تتطلب لتحليلا للسياقات والمواقف التي تَرد فيها حتى ما كان غير لغوي، ومعنى الكلمة على هذا يتعدد تبعا لتعدد السياقات التي تقع فيها[4].
-جون لاينز: ويقول: «أن معنى الوحدة الكلامية يعتمد بشكل جوهري على السياق وأن الوحدات الكلامية يمكن تفسيرها على أساس مقدار كبير من المعلومات السياقية المفهومة ضمنيا في أغلبها .[5]«
[1] دي سوسير: دروس في الألسنية العالمية، ترجمة صالح الفرماوي ومحمد الشاوش، ص 186.
[2] فندريس: اللغة، ترجمة عبد الحميد الدواخلي ومصطفى القصاص، ص 231.
[3] المرجع نفسه، من 231.
[4] ينظر: ظاهر سليمان حمودة: المعنى من الأصوليين ص 213-214.
[5] جون لاينز:اللغة والمعنى والسياق، ترجمة عباس صادق الوهاب، ص 222.
-
-
-
اصطلاحا: عند بعض المحدثين: « ودلالة مأخوذة من اللفظ أو المعنى ويكون المدلول بما لا غيره من المراد، فهي عندهم رد للدلالة اللفظية أو المعنوية التي تمحص المدلول وتصرفه إلى المراد مع منع غيره من الدخول فيه»[1]
ويضرب فاضل السامرائي أمثلة عن الضرب الكلامي الذي لا يحتاج إلى قرينة نحو ما جاء في قوله تعالى:
{ { خلق الله السَّماوات والأرض بالحقّ إنّ في ذلك لآية للمؤمنين } } . وأيضا في قوله تعالى: { { وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرّحيمُ } }، وعليه كان في الكلام ما يحتاج للتأويل وهو نفسه ما يستحق مجموع القرائن التي تفصح عن دلالته، وما لا يحتاج له ( التأويل) في الدلالة والقصد
-
-
-
.أقسام القرائن:
يرى علماء العربية أن القرائن مأخوذة من المقام أو المقال، وهي عندهم ثلاثة أنواع: قرينة لفظية، وقرينة معنوية، وكلتاهما تأخذان من المقام، وقرينة الحال وهي التي توجد من المقام، من ذلك قوله تعالى : { { آمن الرسول بما أنزل لو من ربه والمؤمنون كل أمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رسلهِ } } فيرى أبو حيان أن دلالة للفرد تحتاج إلى دلالة لفظية أو معنوية فيقول: « ودلالة الجمع أظهر في العموم من الواحد سواء كانت فيه الألف والام أم الإضافة، بل لا يذهب إلى العموم في الواحد إلاّ بقرينة لفظية، كأن يستثني منه أو يوصف بالجمع نحو: أهلك الناس الدينارُ والدّرهم البيضُ»[1].
وعند علماء الأصول قسمت القرائن إلى نوعين:
-قرائن لفظية.
-قرائن غير النفطية
فاللفظية بقصد بها في العلم الحديث (السياق اللساني)، إذ عند الأصوليون الكتاب والسنة سياقة واحدا مكتملا يوضّح بعضه بعضا، فيسهم هذا السياق في كشف جانب من المعنى، وتكون القرينة اللفظية نوعين: قرينة متصلة وقرينة منفصلة، فالمتصلة في كل ما اتصل بكلمة، فيبطل ظهورها ويوجهه للمعنى العام، وتكون علم القرينة حملة مستقلة مصاحبة اللفظ العام بمعنى متصلة بالسياق، وغير متصلة بمعنى منفصلة؛ أي هي بمعنى سابقتها في كونها تبطل ظهور الكلمة وتوجه المعنى العام للسياق التي تنسجم معه، لكنّها لا تأتي متصلة بسياق الكلام نفسه بل تكون مفصلة عنه.
والقرائن غير اللفظية هي كل ما يتصل بالحدث الكلامي، وما بلابسه من ظروف، فيدخل ضمنها في سياق الحال والمقام، وهي بذلك نسبة للسياق الثقافي والاجتماعي، وذلك نحو قوله تعالى: { { واستفززْ من استطعتَ منهم بصوتك وأجلبْ عليهم بخيلكَ ورجلك وشاركهمْ في الأموالِ والأولاد } } فالفعل (استفزز) ليس على ظاهره من إرادة فعل المطلوب، إنما هو أمر تعجيزي أي أنت لا تقدر على إضلال أحد، وليس لك سلطان على أحد. وذلك بقرينة حالية فهمت من حال الشارع.
وانقسمت من جهة أخرى عند علماء الأصول أيضا إلى:
-قرينة قاطعة: وهي الأمارة التي تبلغ حدّ اليقين ولا تقبل دلالتها إثبات العكس.
-قرينة غير قاطعة: يعني التي لا تقبل دلالتها إثبات العكس.
وقسّمت حسب درجتها إلى ثلاث أقسام: ظنيّة غير ضعيفة، وظنّية ضعيفة، وكاذية غير صحيحة، فالظنيّة عموما هي التي تبين المراد من الدليل الذي اتصلت بها نحو قوله تعالى : { { و أحل لكم ما وراء ذلكم } } فهي قرينة لفظية اتصلت بما قبلها من الآيات التي بينت المحرمات من النساء وبينت أن غير سالف الذكر حلال لنا.
أيضا سار العلماء اللغويون المحدثّون على خطى السابقين في تقسيمهم للقرائن في كونها مقالية ( لفظية ومعنوية) أو حالية، ومنهم من فضل في ذكر أنواع القرائن فصارت أنواعا مردّها جميعا إلى المقام والمقال من بينهم " فاضل السامرائي" الذي قال بنوعين: أن الكلام ضربان؛ ضرب تكون دلالته الظاهرة موافقة لدلالته الباطنية من غير إبهام أو احتمال آخر في المعنى وهو لا يحتاج إلى قرينة، وضربٌ لا يتضح معناه ومقصوده إلاّ با لقرينة، وعليه انقسمت القرائن إلى عدة أنواع كالاتي:
-
- القرينة اللفظية: وهي اللفظ الذي يدل على المعنى المقصود، ولولاه لما الصبح المعنى، وذلك نحو قوله تعالي: { { وإذا قيل لهمْ آمِنوا بما أنزلَ الله قالوا أنؤْمن بما أُنزِلَ عليناَ ويكفرون بما وراءهُ وهُوَ الحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فلمَ مقتُلونَ أنْبياء الله من قبلُ إن كنتُم مؤمنينَ } . فقوله: { من قبلُ } وضّح أنّ مقصوده بقوله: { تقتلونَ } هو الزمن الماضي وليس الحال أو الاستقبال .....
-القرينة المعنوية: وهذه التي يحكم بدلاتها على المعنى وصحته، نحو قوله تعالى: { { أمّا السفينة فكانتْ بمساكينَ يعملونَ في البحر فأردتُ أن أعيبَها وكانَ وراءهم ذلك يأخذ كلَّ سفينة غصبا } } والمعنى فيها السفينة الصالحة.
-القرينة العقلية: هي التي تتضح من المعنى العقلي نحو: أكل الكمثرى موسى؛ فإن العقل عيّن الأكل.
-القرينة الحالية: مثّل لها تمام حسّان من القرآن بقوله تعالى: { { وإذ اعْتزلتموهمِ وما يعبدون إلا اللهَ فأوُوا إلى الكهف ينشرْ لكم ربُّكم من رحمته ويُهيّئ لكم من أمركم مرفقا} }. فالتركيب لا يمنع من أن تكون (ما) نافية، غير أن الآية حددت الحال وهي في قوله تعالى: { { هؤلاء قومنا اتّخذوا من ذونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بينٍ فمن أظلمُ ممّن افترى على الله كذباً } } بمعنى (الذي) أي في موصولة.
-قرينة السياق والمقام: يشير البشير السامرائي إلى أنّ السياق غير المقام ولكنهما قد يتداخلان، فالسياق هو مجرى الكلام وتسلسلُه واتصال بعضه ببعض، وأمّا المقام فهو الحالة التي يقال فيها الكلام، وذلك كان يكون المقام جرنا أو فريكا والسياق والمقام من القرائن المهنة في فهم الكلام والدلالة على معناه فمن ذلك قوله تعالى: { { دق إنّك أنت العزيز الكريمُ } }.
وجاء في "البرهان" للزّركشي أنّ دلالة السياق ترشد إلى تبيين المجمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالة على مبتغى المتكلم، ومن ذلك قوله تعالى: { { دق إنّك أنت العزيز الكريمُ} }. كيف تعد سياقه يدل على أنه الدليل الحقير، فكان بذلك للسياق دور كبير في تحديد مجال المعنى أثناء تغير التعبيرات اللغوية، فهو يعلم المتلقي ضرورة اكتشاف أسرار الألفاظ وكيفيات انتقال معانيها من مباشرة إلى عكسية.
-القرينة الاجتماعيةّ: أو ما يعرف أيضا بالسياق الثقافي، ويشمل عددا كبيرا من العوامل من بينها المجموعات الاجتماعية التي ينتمي إليها المتحدث، والعلاقات الاجتماعية بين المتحدث والمتلقي والتعامل الاجتماعي، وعن وفي هذا التعامل والمعرفة المشتركة بين المشتركين في الكلام، فإذا اجتمعت هذه المجتمعات وكانت بينها علاقات معينة وتظهر خلال تعاملها مع بعضها وتنتج عن ذلك ثقافة ما تتميز بها من غيرها. ويظهر هذا النوع من السياقي في استخدام كلمة معينة على مستوى لغوي محدد واستخدامها مرتبط بالثقافة، أما دوره فهو تحديد المحيط الثقافي أو الاجتماعي الذي يمكن أن تستخدم فيه الكلمة أي إنّ كل طبقة ثقافية لها كلمات خاصة بها أو حقل دلالي خاص بها، وتكون هذه الكلمات مختلفة الدلالات من المجموعة إلى أخرى، فالثقافة والظروف الاجتماعية التي تحيط بالكلمة هي التي تمنحها معنى محدّداً بما لتلك الثقافة أو تلك البيئة الاجتماعية، وهذا ما ذهب إليه نصر حامد أبو زيد " ونقصد بالسياق الثقافي للنصوص اللّغوية كل ما يمثل مرجعية معرفية، لإمكانية التواصل اللغوي"[1] فالكلمة قد يكون لها معنى معيّن في المعاجم اللغوية، ولكن قد يختلف ذلك المعنى حسب البيئة الاجتماعية والثقافية المستعملة لتلك بالكلمة، ومن ذلك كلمة (جدر) التي تحمل معنى عند المزارع وتحمل معنى آخر عند اللغوي ومعنى ثالثا عند عالم الرياضيات، فالكلمة ترتبط بالسياق الثقافي والاجتماعي لها. ولم يغفل النفس القرآن الظروف الاجتماعية والثقافية المحيطة بالنص، إذ إنّه نزل في بيئة الثقافية تدرك أمور البلاغة، ومن معجزاته أنّه نزل بلغة العرب كما أنّهم راعي أمور الطلاق والزواج والميراث، ونهى عن بعض العادات الاجتماعية السيئة التي انتشرت في الجاهلية.
-
-
-
-
1. ابن الأنباري: الأضداد
2. ابن جني الخصائص
3. ابن منظور: لسان العرب
4. أحمد مختار، علم الدلالة
5. این فارس: مقاييس اللغة
6. بيار جيرو: علم الدلالة، ترجمة منذر عياشي
7. التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون
8. الجرجاني: التعريفات
9. جون لاينز:اللغة والمعنى والسياق، ترجمة عباس صادق الوهاب
10. الزمخشري: أساس البلاغة
11. ستيفن أولمان: دور الكلمة في اللغة، ترجمة كمال محمد بشر..
12. صلاح الدين زرال، الظاهرة الدلالية عند علماء العربية القدامي
13. ظاهر سليمان حمودة: المعنى عند الأصوليين
14. عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز
15. عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة
16. علي زوين، منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث
17. فندريس: اللغة، ترجمة عبد الحميد الدواخلي ومصطفى القصاص
18. مجمع اللغة العربية بالقاهرة: المعجم الوسيط .
19. محمد سمير نجيب: معجم المصطلحات النحوية والصرفية
20. محمد محمد يونس، المعنى وظلال المعنى
21. محمود السعرات علم اللغة ( مقدمة للقارئ العربي).
22. مصطفى ناصف القراءة في دلائل الإعجاز، مجلة النقد الأدبي
23. نصر حامد أبو زيد: النص والسلطة والحقيقة.
-