السياق عند البلاغيين
الثاني: عند البلاغيين
انصبَّ اهتمام البلاغيين في دراستهم للسِّياق على " فكرة مقتضى " الحال" والعلاقة بين المقام والمقال. وكان ذلك الاهتمام في هذا المصطلح من طرف علماء " علم المعاني " وفي ذلك يقول التهانوي: « والحال في اصطلاح أهل المعاني هي الأمر الداعي إلى المتكلم على وجه مخصوص؛ أي الداعي إلى أن يعتبر مع الكلام الذي يؤدى به أصل المعنى خصوصية ما هي المسماة بمقتضى الحال، مثلا كون المخاطب مذكرا للحكم حال يقتضى تأكيد الحكم والتأكيد مقتضاها ... وعلى هذا النحو قولهم "علم المعاني" علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بما يطابق اللفظ مقتضى الحال؛ أي يطابق صفة اللفظ مقتضى الحال، وهذا هو المطابق بعبارات القوم حيث يجعلون الحذف والذكر إلى غير ذلك معلّلةُ بالأحوال»[1] . ومنه كان من الواضح أن أهل علم المعاني اهتموا بأحوال المتكلم والمستمع، والتعريف يقتضي أن يكون المتكلم عارف بأحوال السامع قبل التكلم حق يأتي بالكلام على صفة مخصوصة تتطابق مع حال المستمع.
وإذا ما نظرنا إلى " المقال" على أنه يمثل السياق اللغوي" فإننا نجد أن البلاغيين قد أوْلَوه عناية كبيرة منهم عبد القاهر الجرجاني الذي ربط فصاحة الكلمة بسياقها اللغوي والتركيب الذي قيلت فيه، فيقول:« وجملة الأمر أننا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، ولكنّا نوجبها لها موصولة بغيرها، ومعلقا معناها بمعنى ما يليها، فإذا قلنا في لفظة (واشتغل) من قوله تعالى : { { واشْتعلَ الرّأسُ شيباً } } إنها في أعلى المرتبة من الفصاحة، لم نوجب تلك الفصاحة لها وحدها، ولكن موصولاً بها الرأس معرفا بالألف واللام، ومقرونا إليهما. الشيب منكَّرا منصوبا»[2].
وإذا نظرنا مرة أخرى للمقام" على أنه هو "سياق الموقف" وجدنا ذلك واضحا عند البلاغيين، فهذا عبد القاهر الجرجاني أيضًا يربط الكلام بمقام استعماله ومراعاة مقتضى حاله، وهو لبُّ دراسة المعنى اللغوي عنده ومنبثق من نظريته في النظم، وقد ثار على اللغويين العرب لأنهم لم يستفيدوا من مبدأ جيد وضعه سيبويه مؤدّاه ربط الكلام بمقام استعماله، بل وقع في ظنّهم أن كل تقديم أو تأخير أو حذف... إنما هو العناية والاهتمام، وقد أورد قول النحويين: وقال النحويون: إن معنى ذلك أنه قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه، ولا يبالون من أوقعه، كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجي يخرج فيعيت ويفسد، ويكثر به الأدى، أنهم بيريدون قتله، ولا يبالون من كان القتل منه، ولا يعنيهم منه شيء، فإذا قتل وأراد مزيد الإخبار بذلك فإنه يقدّم ذكر الخارجيَّ فيقول: " قتل الخارجي زيد"، ولا يقول: "قتل زيد الخارجي"، لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له "زيد" جدوى وفائدة، فيعنيهم ذكره ويهمهم ويتصل بمسرتهم ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقعون له ومتطلعون إليه متى يكون، وقوع القتل بالخارجي المفسد، وأنهم قد كفوا شره وتخلصوا منه»[3] ، ثم قالوا [أي النحاة ] :
« فإن كان رجل ليس له بأس ولا يقدر فيه أنه يقتل، فقتل رجلاء وأراد المخبر أن يخير بذلك فإن يقدم ذكر القاتل فيقول: " قتل زيد رجلا" .[4]
ومن الأمثلة التي تبين أيضا اهتمام الجرجاني بالسياق بشقيه في دراسته للتراكيب وما يعتريها من حذف قوله:
«هو مما يجب ضبطه هنا أيضاً: أن الكلام إذا امتنع حمله على ظاهره حتى يدعو إلى تقديرٍ حذفٍ، أو إسقاطِ مذكورٍ، كان على وجهين: أحدهما أن يكون امتناع تركه على ظاهره، الأمر يرجع إلى عرض المتكلم... الوجه الثاني أن يكون امتناعُ تركِ الكلام على ظاهره، ولزومِ الحكم بحذفٍ أو زيادةِ، من أجل الكلام نفسِه، لا من حيث غرض المتكلم به، وذلك مثل أن يكون المحذوف أحد جزءي الجملة»[5].
وهكذا يربط الجرجاني جميع القرائن النحوية من تمام أو رتبة أو مطابقة، بمراعاة السياق اللغوي وسياق المقام وما يتصل بمشاعرهم على نحو ما مرّ في مثال "الخارجي".
وإذا كان مصطلح "مقتضى الحال" يقترب إلى حد كبير من مصطلح "سياق الحال" في الدرس اللغوي الحديث ويشترك معه في أهم خاصية وهي الاهتمام بالجانب الاجتماعي للُّغة، فإن مصطلح "مقتضى الحال" بالتعريف السابق للتهانوي فهو أضيق دلالة من مصطلح "سياق الحال"، إذ لابد أن يسبق المقام أو مقتضى الحال المقالَ، لأن الكلام يُصاغ بمقتضاه وهذا يختلف عن مفهوم (سياق الموقف)، حيث يُستعان بعناصره لفهم الكلام بعد إنتاجه وهذا المقال جزء من هذا السياق وليس منفصلا عنه، وأيضا يرى "كمال بشر" أن: البلاغيين قد وفقوا في إدراك شيء مهمّ في الدرس اللغوي وهو المقام، ولكنهم طبقوه بطريقتهم الخاصة وكانت غايتهم في المقام لمعرفة الصحة والخطأ والجودة وغيرها لهذا كانت نظرتهم للمقام أو مجربات الحال أو ما يسميه هو " المسرح اللغوي " نظرة معيارية لا وصفية، وبذلك يختلف المقام عند البلاغيين مما هو عند المحدثين. وبهذا يكون النحاة هم الأقرب إلى مفهوم "سياق الحال" أو "سياق الموقف" من البلاغيين.
[1] التهانوي كشاف اصطلاحات الفنون، (2/125).
[2] عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 402.
[3] عبد القاهر الجرجاني : دلائل الاعجاز، ص 107.
[4] المرجع نفسه، ص108.
[5] عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص421.