علاقة السياق بالنظم
دور السياق في النظم:
لقد أشار "الجرجاني" إلى دور السياق في إبراز الدلالة، من خلال الترتيب الذي تأخذ فيه العلامة اللغوية قيمتها، التبين المعنى المقصود - على مثل ما وضح (سوسير)، إذ لا قيمة العلامة لغوية في ذاتها إنما قيمتها تستمد من محيطها؛ أي بما يخالفها ويجاورها من علامات أخرى، وهذا رأي الجرجاني الذي أخذ فيه شوطه لإثباته والتدليل عليه بالأقاويل والأمثلة الكثيرة، وعلى سبيل ما قاله: "وأما نظم الكلم، فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو (النظم) الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء وانفق، ولذلك كان عندهم نظيرا للنسج والتأليف والصياغة والبناء والوي والتحبير وما أشبه ذلك، مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض، حتى يكون الوضع كل حيث وضع، علة تقتضي كونه هناك، وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح[1] ، وهو إثبات كذلك الاعتباطية الدليل اللغوي أو العلاقة بين اللفظ ومعناه، إذ كل شيء إنما يتم بينهما لفهم الأشياء من حولنا، حيث لو أطلق لفظ على معنى ما لألصق به دون وهي من قائله، بحكم الوضع والاتفاق الذي وحد بينهما، فإن حدث تغير في أحد الشقين يتبعه تغير في الشق الآخر، وفقا لما يمليه التصور، "فلو أن واضع اللغة كان قد قال (ريض) مكان (ضرب)، لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد[2].
على هذا الأساس وضح "الجرجاني" تصوره في كون اللفظ لا يعرف له موضع في التركيب من غير معناه لأن الألفاظ أوعية للمعاني وتبع لها وهي تدل عليها في مدرج الكلام على نحو ما تدل المعاني على الفاظها في الذهن، إذ يقول: "لا يتصور أن تعرف للفظ موضعا من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا نظماً، وأنك تتوخى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك، فإذا تم لك ذلك أتبعتها الألفاظ وقوت بها آثارها، وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكرة في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني، وتابعه لها، ولاحقة بها، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس، وعلم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق[3]. إذا، وكما يقول (شوقي ضيف): "فصاحة الألفاظ وبلاغتها لا ترجع إلى الألفاظ بشهادة الصفات التي توصف بها، وإنما ترجع إلى صورتها ومعرضها الذي تتجلى فيه، وبعبارة أخرى ترجع إلى نظمها وما يطوى فيه من خصائص ومعنى ذلك أن هذه الصفات ليست صفات للألفاظ في أنفسها، وإنما هي صفات عارضة لها في التأليف والصياغة بسبب دقائق بلاغية لم تكن لها قبل سياقها الذي أخذته في صور نظمها[4].
فقد حاول عبد القاهر إرساء من دوم تعلق الكلمات ببعضها البعض[5].
[1] عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، المرجع السابق، ص49.
[2] المرجع نفسه، ص ص 53-54.
[3] البلاغة تطور وتاريخ، من 164.
[4] مصطفى ناصف القراءة في دلائل الإعجاز، مجلة النقد الأدبي. تصدر عن البيئة المصرية العامة للكتاب ع3، 1981، ص 34.