السياق عند النحاة
الثالث: عند النحاة
لقد اهتم اللغويون بالسياق وأولوه عناية وتكلموا فيه طويلا منذ بداية جمع اللغة والتقعيد لها، فنجد أبا عمرو بن العلاء يُقرُّ بذلك عندما سئل: «أكانت العرب تطيل؟ فقال: نعم لتبلغ ثم قيل له: أفكانت توجز؟ قال: نعم ليُحفظ عنها»[1]، أي أن العرب كانوا إذا تكلموا يهتمون بالسياق الذي يتحدثون فيه فإذا كان المراد من الحديث التبليغ أطالوا وإذا كان هدفهم حفظ السامع لما يقال أو جزءا لتسهيل العملية عليه.
ومن النحاة الذين تعلموا بالسياق مجد سيبويه (ت 180هـ) وهو لم يتحدث عنه صراحة وإنما أشار إليه من خلال حديثه عن الاستقامة والإحالة في الكلام فقال: « فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب. فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتك أمسِ وسآتيك غدا، وأما المحال فأن تنقض أول كلامك بأخره فتقول: أتيتك غدا وسآتيك أمسِ وأما المستقيم الكذب فقولك: حملت الجبل وشربت ماء البحر ونحوه، وأما المستقيم القبيح فأن تضع اللفظ في غير موضعه نحو قولك: قد زيدا رأيتُ، وكي زيدًا يأتيك وأشباه هذا، وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس»[2]. فالسياق عند سيبويه بتضافر بنوعيه (السياق اللغوي وسياق الموقف) في الارتقاء بالمعنى وتوضيحه من خلال تعانق صحة المعنى مع التجديد زمن الكلام باعتباره عنصرا من عناصر سياق الموقف حيث يُجاز التركيب أو يرفض في ضوء واقعيته، حيث نصّ على أن التركيب المجاز هو المحدد بزمان أو مكان مع استقامة المعنى، وهذه التراكيب التي لها صلة بالسياق تعددت في لغتنا وتباينت فيما بينها تبعا لطبيعة ذلك التراص وملابسات السياق، مما استدعى ظهور أنماط تركيبية يقبل بعضها ويرفض بعضها الآخر، وقد تكفل سيبويه ببعض منها بإعطاء أمثلة كلامية قوامها الكلم العربي.
ومن بين النحاة الذين أكّدوا على أهمية السياق أبو البركات الأنباري (ت 328هـ) وتعلى هذا الاهتمام في قوله: «أنّ كلام العرب يصحح بعضه بعضا ويرتبط أوله بآخره، ولا يعرف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه، واستكمال جميع حروفه، فجاز وقوع اللفظة على المعنيين المتضادين، لأنها يتقدمها ويأتي بعدها ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر، ولا يراد بها في حال التكلم والإخبار إلا معنى واحد»[3].
ولا يمكننا الكلام على اللغويين دون أن نعرج على أحد أعمدة اللغة العربية وشيوخها ابن جني (ت 394هـ) الذي. فقد اللغة وكان له دور كبير في الدفاع عنها، وتجد هذا في قوله « فكان العرب إنما تحلى ألفاظها وتديجها وتشبيها وتزخرفها عناية بالمعاني التي وراءها وتوصلا بها إلى إدراك مطالبها»[4] فتوصل إلى نتيجة مفادها وأن الألفاظ خدم المعاني»[5]
وقد أشار ابن جني إلى أهمية السياق اللغوي الذي يرد في الكلام فقال: « كما أن القول قد لا يتم معناه إلا بغيره الا ترى أنك إذا قلت: قام وأخليته من ضمير فإنه لا يتم معناه الذي وضع الكلام عليه وله»[6] فنفهم من قوله: « قد لا يتم معناه » أن هناك إمكانية لفهم المعنى دون الحاجة إلى غيره؛ أي من خلال ما يحيط بالكلام من ملابسات وهذا ما يسمى بالسياق غير اللغوي.
[1] ابن حني الخصائص، (1/83).
[2] ) سيوية الكتاب(، (25/1).
[6] عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص49.